في ظل تسارع وتيرة ظهور سلالات بكتيرية مقاومة للمضادات الحيوية بشكل شبه كامل او كامل، تتضافر الجهود وتنشط الجهات العاملة في الصحة المحلية والعالمية بشكل كبير في الآونة الأخيرة لوضع حلول من شأنها الحفاظ على المنجز البشري الكبير المتمثل في المضادات الحيوية والتي استطاع الانسان من خلالها الحفاظ على وانقاذ أرواح ملايين من البشر. وفي هذا السياق قامت منظمة الصحة العالمية في العام 2017 بنشر قائمة مكونة من 12 بكتيريا تمثل خطورة عالية عالمية بسبب قدرتها العالية على مقاومة المضادات الحيوية. في هذه السلسلة من المقالات سنفرد مقالة لكل بكتيريا نبين فيها بعضاً من خصائصها، أماكن تواجدها، كيفية انتشارها/انتقالها، الامراض التي تسببها، المضادات الحيوية المستخدمة ومدى مقاومتها. بالإضافة الى معلومات عن أماكن تواجد الأنواع المقاومة.
العقدية الرئوية Streptococcus Pneumonia
العقدية الرئوية أو المكورات الرئوية Streptococcus pneumoniae هي بكتيريا موجبة غرام، لاهوائية اختيارية، غير متحركة ولا تكون ابواغ (None spore-former). وسميت بهذا الاسم لأنها تكون على هيئة أزواج كروية أو في سلاسل قصيرة، وتعتبر سبب رئيسي لكل من التهاب الرئة والتهابات الأذن الوسطى، وتعتبر أيضا من مسببات التهاب السحايا البكتيري، وتتميز العقدية الرئوية بأنها يمكن أن تحلل خلايا الدم الحمراء تحللا جزئيا يعرف بتحلل ألفا Alpha haemolysis وتنتج بيروكسيد الهيدروجين الذي قد يتسبب في تلف في الحمض النووي وقتل خلايا الرئتين. تتميز هذه البكتيريا بوجود حافظة Capsule تعتبر ضرورية لإحداث المرض ومن خصائصها التنوع المصلي الكبير فهناك ما يقارب 90 من الأنماط المصلية المختلفة الأمر الذي يعقد عملية انتاج لقاح/تطعيم والاصابة بسلالة ما وتكوين مناعة ضدها لا يحمي الشخص من الإصابة بسلالات أخرى.
توجد بكتيريا العقدية الرئوية بشكل طبيعي Normal microbiota وبدون ظهور أي اعراض في التجويف الانفي والجيوب الانفية والجهاز التنفسي. ولكن عند الأفراد الذين يعانون من نقص المناعة أو الذين يدخنون السجائر (خاصة الذين يدخنون بشراهة) أو المصابين ببعض الأمراض كالربو، أو من يعملون في مصانع كيميائية أو الدهانات فقد تسبب لهم الأمراض. الالتهاب الرئوي هو أكثر الأمراض شيوعًا والأكثر خطورة من بكتيريا العقدية الرئوية S. pneumoniae الذي يتضمن أعراضًا مثل الحمى والقشعريرة والسعال والتنفس السريع وصعوبة التنفس وألم في الصدر. بالنسبة للمسنين، قد يشمل الارتباك واليقظة المنخفضة والأعراض المذكورة سابقاً.
وإذا ما انتشرت العدوى إلى الدماغ والحبل الشوكي، فمن الممكن أن يتسبب بالتهاب السحايا. تشمل الأعراض تيبّس العنق، الحمى، الصداع، الارتباك ورهاب الضوء. قد تتسبب العدوى بتعفن الدم الذي يؤدي إلى تلف الأنسجة، فشل الأعضاء وحتى الموت. تشمل الأعراض ضيق التنفس، ارتفاع معدل ضربات القلب، الألم أو عدم الراحة، العرق، الحمى، الارتجاف أو الشعور بالبرد.
تسبب العقدية الرئوية الأمراض في جميع أنحاء العالم. قد يكون المسافرون معرضين لخطر أكبر إذا ما أمضوا الوقت في الأماكن المزدحمة أو على اتصال وثيق بالأطفال في البلدان التي لا يستخدم فيها لقاح العقدية الرئوية المقترن Pneumococcal Conjugated Vaccine (PVC) بشكل روتيني. ويكون مرض العقدية الرئوية أكثر شيوعاً في البلدان النامية، وأيضًا خلال الشتاء وأوائل الربيع ويحدث على مدار العام في المناطق المدارية. بالنسبة لتفشي أو حصول وباء العقدية الرئوية غير شائع في البلدان التي أدخلت لقاح العقدية الرئوية، ولكن قد تحدث في بعض الحالات، مثل دور رعاية المسنين، مراكز رعاية الأطفال أو غيرها من مؤسسات الرعاية الصحية.
تعتبر المضادات الحيوية هي العلاج الأساسي للالتهابات البكتيرية والتي تعتبر فعالة ضد العقدية الرئوية، ويعتمد علاج التهابات العقدية الرئوية على نوع السلالة التي أصابت المريض بالالتهاب. بقيت هذه البكتيريا فترة طويلة من الزمن دون ان تكون مقاومة للمضادات الحيوية ولكن مؤخراً اكتسبت بعض سلالات العقدية الرئوية مقاومة لبعض المضادات الحيوية وبالتالي أصبح من الصعب علاجها بشكل موثوق به. عادةً ما يتم فحص مدى حساسية العقدية الرئوية للمضادات الحيوية Antimicrobial susceptibility testing أثناء عملية التشخيص، كما ويقوم الطبيب بالحكم على فعالية العلاج اعتماداً على النتائج المترتبة على تناول العلاج. ومن المضادات الحيوية المستخدمة: (Erythromycin) اريثرومايسين، (Cefixime) سيفكسيم، (Cefditoren) سيفديتورين والبنسيلينات بشكل عام.
سُجلت أول مقاومة من قبل سلالات العقدية الرئوية للبنسلين لأول مرة عام 1970م. حتى انتشرت السلالات المقاومة للبنسلين في جميع أنحاء العالم بالإضافة الى مقاومتها أيضاً لأنواع أخرى من المضادات الحيوية مثل الاريثروميسين، التتراسيكلين والكلورامفينيكول. بكتيريا العقدية الرئوية تكتسب جينات مقاومة المضادات الحيوية متعددة من خلال الطفرات Mutations والتطور مع الاستخدام المتزايد للمضادات الحيوية. حيث تؤثر الطفرات في بروتينات الارتباط بالبنسلين penicillin binding proteins (PBP) على ارتباط البنسلين الذي يقتل البكتريا من خلال منع تكوين الجدار الخلوي.
انتشرت بسرعة سلالات بكتيريا العقدية الرئوية المقاومة للبنسيلين، وأصبح من الصعب علاج العدوى التي تحدثها السلالات المقاومة. وحسب مركز الوقاية والتحكم في الأمراض(CDC) Center for Diseases Control and Prevention الذي قدر أن 30% من حالات العقدية الرئوية كانت بسبب سلالات مقاومة لمضاد حيوي واحد أو أكثر في 2013. هذه المقاومة تزيد من عدد زيارات الطبيب والمستشفيات حيث أشارت تقارير نفس المركز إلى أن السلالات المقاومة يمكن أن تؤدي إلى 1,200,000حالة مرضية إضافية و7000 حالة وفاة سنوياً. زيادة مقاومة العقدية الرئوية للمضادات الحيوية شائعة الاستخدام مثل الماكروليدات أو السيفالوسبورينات وغيرها من العقاقير المتعددة هي مشكلة صحية خطيرة أخرى. أدى هذا الانخفاض في القدرة على معالجة العقدية الرئوية إلى تسريع العمل على تطوير اللقاحات التي من شأنها توفير الحماية قبل العدوى وبالتالي تقليل الحاجة إلى المضادات الحيوية.
قدرت منظمة الصحة العالمية (WHO) أنه مع بداية تلقيح الرضع بلقاح العقدية الرئوية انخفض معدل الوفيات. على الرغم من فعالية تطعيم PCV في البلدان المختلفة، تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن الوفيات المرتبطة بالعقدية الرئوية بين الأطفال دون سن الخامسة لا تزال مرتفعة. حالياً، هناك نوعان من اللقاحات التي تحمي ضد بكتيريا العقدية الرئوية، حيث يستخدم لقاح العقدية الرئوية عديد السكريات 23 (PPSV23) The pneumococcal polysaccharide vaccine 23 المحسّن المنقى حيث يتم إعطاؤه بشكل روتيني للبالغين من العمر 65 عامًا وأكثر حيث يحمي ضد 23 من الأنماط لبكتيريا العقدية الرئوية وفعالة في 50-70 ٪ من الحالات في البالغين.
بعد ذلك تم تطوير لقاح العقدية الرئوية (PCV) بعد ملاحظة انخفاض فعالية واستدامة PPSV23 عند الرضع والأطفال الصغار. يوفر لقاح PCV13 مناعة طويلة الأمد من خلال تحفيز ها لخلايا B و T (الخلايا البائية والخلايا التائية) وقد أدى استخدام هذا اللقاح إلى انخفاض حالات الإصابة بالالتهاب الرئوي لدى الأطفال الصغار بنسبة تزيد عن 90٪، وهو أكثر فاعلية لدى الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمسة.
من منطلق مبدأ الوقاية خير من العلاج، فإن التطعيم هو الخيار الأفضل لتجنب الإصابة بالمرض. ويتوفر لقاحين ضد العقدية الرئوية وكلاهما يعمل بنفس الآلية، التي تعمل على تعريض الجسم للمستضدات لإثارة الاستجابة المناعية لدى المُتلقي، مع العلم أنه لا يوجد مطاعيم ضد جميع الأنماط المصلية المعروفة للعقدية الرئوية لذلك فإن التطعيم لا يوفر الحماية الكاملة ضد العقدية الرئوية. يتم عادةً إعطاء مطاعيم العقدية الرئوية بشكل روتيني لجميع الأطفال من خلال برنامج التحصين الوطني، كما يُوصى بإعطاء هذه المطاعيم للأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بها. التطعيم لا يغطي جميع الأنماط المصلية المختلفة للعقدية الرئوية ولا يوفر حماية تصل الى 100% ولم تستطع الكثير من الدول الفقيرة تأمين التطعيم لأطفالها لذا يجب أيضاً البحث عن مضادات حيوية جديدة حتى تشكل ضمانة إضافية في حال انتشار سلالات لا يغطيها التطعيم او في بلدان لا تستخدم التطعيم بعد.
البريد الإلكتروني للكاتب: elmanama_144@yahoo.com