عالم واسع وغير مرئي، لم نكن نعرف عنه شيئاً تقريبا قبل 100 عام، ومنذ اكتشاف هذه المخلوقات الدقيقة لم تتوقف عن إذهال البشر بقدراتها المتنوعة والرائعة التي مكنتها من استعمار معظم البيئات وأداء أدوارها المحورية على كوكب الأرض. كما أنها فتحت شهية البشر لترويضها والحصول على كنوزها المختلفة. في هذه السلسلة من المقالات نتعرض لمجموعات متنوعة من البكتيريا والكائنات الدقيقة ذات قدرات خاصة تميزها وتجعلها محط الاهتمام والدراسة.
تَحتاجُ جَميعُ أشكالِ الحياةِ على كوكب الأرضِ للطاقةِ لنموها والقيام بنشاطاتها المختلفة ولضمانِ بَقائِها على قَيدِ الحياة. تأتي هذه الطاقة في صورةِ إلكترونات؛ وهي نفسها تلك الجسميات التي تحملُ شحنةً سالبةً والمسؤولة عن إنتاج التيارِ الكهربائي عند حَرَكَتِها حَوْلَ الأسلاكِ الكهربائيةِ في الدوائر الكهربية.
تَحصلُ معظمُ الكائناتِ – بما فيها نحنُ البشر – على هذه الإلكتروناتِ (الطاقة) من السكرياتِ والبروتينات والدهون المتواجدةِ في الطعام الذي نأكله. فَبَعدَ سلسلةٍ من التفاعلاتِ الكيميائيةِ التي تَحْدُثُ دَاخِلَ أَجسامِنا، يتم إطلاقُ الإلكتروناتِ التي تتوجه في نهايةِ المطافِ نحو غازُ الأكسجين (المُسْتَقْبِلْ النهائي لها)، فيرتبط بالإلكترونات وبأيونات الهيدروجين، ليتم اختزاله ويتحول إلى ماء. إنَّ تَدَفُّقَ هذهِ الالكتروناتِ هو ما يَمُدُّنَا بالطاقة. هذا يعني أنَّ جميعَ الكائناتِ باختلافِ أحجَامِهَا، وعددِ خَلايَاهَا، تقِفُ جميعُها أمامَ تحدٍ مشترك، وهو العثورُ على مصدرٍ للإلكتروناتِ، وعلى مُسْتَقْبِلٍ نهائي لهذه الإلكترونات.
هناك بيئات عديدة ينخفض فيها مستوى الأكسجين أو حتى ينعدم تماماً وحينها ستضطر هذه الكائنات للبحث عن بديلٍ للأكسجين ليقوم باستقبال الإلكترونات. وبسببِ ما أودعها الله من خصائص وغريزةِ حُبِّ البقاء، ستُذْهِلُنَا بما يُمْكِنُها القيام به. كأن تقوم بتَنَفُّسِ المعادِنِ بدلاً من الأكسجين. هذا المثالُ ليسَ من ضَرْبِ الخيال، بل هو الواقعُ الذي تَعِيشُهُ بكتيريا Geobacter metallireducens، وهي من نوع سالبة غرام، لا هوائية، عُثِرَ عليها أول مرة عام 1987م، في الرواسب الرملية على ضفاف نهر بوتوماك بالقرب من واشنطن العاصمة.
كان يُعتقد في البداية أن هذه البكتيريا غير متحركة، وذلك بسبب تنميتها في المختبر تحت ظروفٍ مثالية، حيث العديد من المعادن الذائبة. ولكن تَبَيَّن فيما بعد أن هذه البكتيريا لا تقوم بتكوين الأسواط إلا في الظروف الغذائية الفقيرة أو غير المفضلة، فعند استبدال المعادن الذائبة بأكاسيد الحديد غير الذائبة، لوحظ أن بكتيريا Geobacter metallireducens قامت بتنمية السوط، وبدأت بالسباحة. ولم يتمكن العلماء من معرفة هذه القدرة إلا بعد أن عثروا على الجينات التي تساهم في تكوين الأسواط ضمن المادة الوراثية لهذه البكتيريا على الرغم من عدم امتلاكها للأسواط في الواقع وبعد الدراسة وُجِد أنها تُكوِّن هذه الأسواط فقط عند الحاجة وهذا أيضا يدلّ على كفاءة البكتيريا في الاقتصاد في الطاقة. سبحان الله.
تمتلك هذه البكتيريا كذلك جينات لتشفير بروتينات الاستشعار، فتستطيع تحسس البيئة المحيطة بها والتوجه نحو المركبات المعدنية المفضلة، فهي تُفضِّل وتنجذب كيميائياً لمُسْتَقْبِلاتِ الالكترونات الذائبة من أكاسيد الحديد وأكاسيد المنغنيز. ولكنها إذا استشعرت نفاد الأكاسيد الذائبة، تبدأ بتكوين الأسواط والأهداب؛ مما يسمح لها بالبحث عن الأكاسيد غير الذائبة، ومن ثم الالتصاق بها. تجدر الإشارة إلى أن بكتيريا Geobacter metallireducens يتوجب عليها أن تكون باتصالٍ مباشر مع الأكاسيد غير الذائبة لتقوم بنقل الإلكترونات لها. وبعد ارتباط الإلكترونات بالأكاسيد غير الذائبة، يتم اختزالها لأكاسيد ذائبة، وبسبب افتقار بكتيريا G. metallireducens لإنزيمات السيتوكروم (C-cytochromes)، فإنها تقوم بإنتاج الأهداب التي تساعدها في تأسيس هذا الاتصال، وهي خيوط بروتينية تُشْبِهُ الشعر، تَبْرُزُ من سَطْحِ الخلية، يُطْلَقُ عليها اسم "الأسلاك النانوية الميكروبية" أو الأهداب الموصلة للكهرباء (E-pili).
لهذه البكتيريا مكانة مُمَيَّزَة لِما تحمله من إمكانياتٍ فريدة، مثل قدرتها على المعالجة الحيوية والقدرة على نقلِ الإلكتروناتِ خارج الخلية لمسافاتٍ طويلة. حيث تَبَيَّنَ أنَّ بكتيريا G. metallireducens تَحْصُلُ على الإلكترونات من المركبات العضوية، ثم تقوم بتمريرها نحو أكسيد الحديد غير الذائب. بمعنى آخر تقومُ هذهِ البكتيريا بتناول المُخَلَّفاتِ- بما فيها الإيثانول _ ثم تقومُ بِتَنَفُّسِ الحديد بدلاً من الأكسجين، ولكن بالطبع تَخْتَلِفُ عمليةُ التنفسِ في البكتيريا عن العملية المتعارف عليها عند البشر والحيوانات مثلاً، فهي لا تمتلكُ رئة، بل تقوم بتمرير الإلكترونات نحو أكسيد الحديد غير الذائب والمتواجد خارج الخلية من خلال "الأسلاك النانوية الميكروبية"، ويكون سلوك هذه الأسلاك الدقيقة مماثلاً لما تقوم به الأسلاك النحاسية عند توصيلها للكهرباء.
تمتلك هذه البكتيريا أيضاً قدرة فائقة على استهلاك المُلوِثات بشكل فعال. فهي تستطيع تحويل المركبات العضوية الموجودة في تسربات النفط إلى ثاني أكسيد الكربون، حيث تقوم بتصنيع الأهداب المُوَصِّلة ليكون أداة توصيل بين البكتيريا والمادة المُلَوِّثَة (التي تعتبر مصدراً للإلكترونات)، فتقوم بتحطيمها. ويُمْكِنُها كذلك تحويلُ بعضِ العناصرِ المُشِعَّة مثل البلوتونيوم واليورانيوم من صورة ذائبة إلى صورة غير ذائبة، فتقل بذلك احتماليةُ تلويثها للمياه الجوفية.
نجح فريق بحثي من جامعة ماساتشوستس في توظيف علم الأحياء التركيبي في فتح الآفاق نحو انتاج مواد إلكترونية صديقة للبيئة من أجل تلبية الطلب المتزايد على جعل الأجهزة الإلكترونية أصغر حجماً وأكثر قوة بطريقة مستدامة، مستخدمين نوعاً آخر من أنواع بكتيريا Geobacter، وهي Geobacter sulfurreducens. فالأسلاك النانوية المُوَصِّلة (E-pili) لهذه البكتيريا تنشأ من تجمع مونمرات (PilA)، والأحماض الأمينية العطرية فينيل الانين والتيروزين تلعب دوراً هاماً في نقل الإلكترون على طول الهدب، ولكن PilA لا يحتوي على التريبتوفان الذي بإمكانه تعزيز النقل السريع للإلكترونات بدرجة أكبر مما يقوم به كل من الفينيل الانين والتيروزين في الإنزيمات وشبكات الببتيد. قام الفريق البحثي بتعديل جيني في هذه البكتيريا من خلال إضافة الحمض الأميني التريبتوفان للمونمر PilA، فنتج عن ذلك سلالة تحمل أسلاكاً نانوية ميكروبية انخفض قطرها عن السابق بحوالي 0.5-1.5 نانومتر (أرق من شعرة الانسان بأكثر من 60 ألف مرة)، مع زيادة في قدرة التوصيل وبلغت ألفين ضعف.
إن القدرة على إنتاج كميات كبيرة من هذه الأسلاك الرقيقة التي سيسهل حزمها في مساحاتٍ صغيرة، والتي لا تحتوي على أي مكوناتٍ سامَّة، والتي تنمو على مواد عضوية متجددة، سيزيد من تطبيقاتها المحتملة في الأجهزة الإلكترونية، ولن يتم توظيفها كأسلاكٍ فقط، ولكن أيضا كترانزستورات ومُكَثِّفَات. وتشمل التطبيقات المقترحة كذلك أجهزة الاستشعار الحيوية، وأجهزة الحوسبة، ومكونات الألواح الشمسية.
البريد الالكتروني للكاتب: elmanama_144@yahoo.com