يين أهل الثقة وأهل الخبرة
الحاكم المستبد قاعدته الذهبية في الحكم (الاستعانة بأهل الثقة) ولهذا لا غضاضة عنده من إهمال نصيحة (استئجار القوي الأمين) لأنه يعتمد مبدأ الولاء قبل مبدأ الكفاءة، بينما الشعوب الواعية والتي تملك زمام أمورها تجنح كثيراً للشخصيات الاجتماعية ذات الملكات والقدرات القيادية المستندة غالباً على رجاحة العقل والفهم العميق والنبوغ و التميّز. و لهذا لا غرابة أن تتجه (أحياناً وليس دائماً) أنظار الشعوب و تطلعاتها لصفوة المجتمع من المفكرين والفلاسفة والعلماء لقيادة تلك المجتمعات وخصوصاً في أوقات المحن و الشدائد.
لهذا نجد مثلاً أن اليهود الصهاينة في بدايات قيام الكيان الصهيوني عرضوا على العالم الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين في عام 1952 أن يصبح ثاني رئيس لدويلة إسرائيل و لكنه اعتذر عن هذا العرض بحجة سذاجته في السياسة ولقد قال حينذاك (إن المعادلات أهم عندي لأن السياسة تمثل الحاضر أما المعادلة فشيء خالد). وفي عام 2005 عندما حصلت انتخابات رئاسية تنافسية لأول مرة في جمهورية مصر العربية بعد أكثر من 24 سنة من حكم الرئيس المصري حسني مبارك المستبد و المطلق للبلاد ورقاب العباد أراد العديد من المهتمين بالسياسة حشد أكثر عدد ممكن من الشخصيات المصرية المرموقة لتقوم بمنافسة الرئيس مبارك لعل مكانتها الاجتماعية تمكنها من التغلب على الرئيس وحزبه الحاكم. ولهذا سافرت بعض الوفود الشعبية المصرية إلى الولايات المتحدة (وكان قبل ذلك قد تم تجميع آلاف التواقيع عن طريق شبكة الانترنت) لتقنع عالم الكيمياء المصري الشهير الدكتور أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل عام 1999 ليرشح نفسه في الانتخابات الرئاسية ضد الرئيس مبارك وبالرغم من الاتصالات المتعددة والمحاولات المتنوعة إلا أن زويل (وكما حصل قديماً مع اينشتاين) رفض الفكرة وأعتذر عنها في حينه.
مثل هذه الأحداث ذات الدلالة لاستدعاء واستقطاب العلماء لتولي سدّة الحكم تشير للمكانة الرفيعة في الغالب للعلم والعلماء في المجتمعات الإنسانية، حيث ينظر لهم بنوع من التبجيل و الإعجاب. والأهم من ذلك أن جموع الناخبين في بعض الحالات تتوقع أداء إداري منضبط ومدروس من أصحاب التخصصات العلمية من أساتذة الجامعات خصوصاً، ولهذا أيضاً نجد العديد من الحكام والمتنفذين يحرصون على الاستعانة بمثل هؤلاء الأشخاص ذوي الخبرات العلمية في تولي مهام الوزارات والإدارات والمرافق الحكومية والأهلية على حدا سواء. ولهذا كثيرا ما نسمع بمصطلح (حكومة التكنوقراط) وهي الحكومات الإدارية التي يتولى زمام المفاصل الأساسية فيها من وزراء ووكلاء ومدراء من الشخصيات ذات الخبرة العلمية من العلماء و المهندسين بل و الأطباء أحياناً على شرط أن يتولى كل وزارة وزير أو مسئول متخصص في مجال تلك الوزارة، فوزير الكهرباء مثلاً يفضل أن يكون مهندساً كهربائياً، بينما وزير الصحة لعله يكون طبيب متخصص في حين أن وزير المالية شخص ذو شهادة علمية عليا في مجال الاقتصاد و هكذا.
الجميل في الأمر أن من بعض مظاهر الثمار اليانعة للربيع العربي المعاصر أن الشعوب العربية ارتفعت عنها وصاية القهر و مصادرة حقوقها في الاختيار. و عندما بدأت بعض الشعوب العربية ممارسة تجربة الاختيار الحر لحكامها و رؤسائها ظهرت ظاهرة سياسية فريدة في المجتمعات العربية و هي ثقتها المندفعة في الشخصيات العلمية و الأكاديمية في تولي شؤون البلاد و العباد في هذه الظروف العصيبة و الأمثلة المؤيدة لهذا الاستنتاج كثيرة و متعددة. فكلنا يعلم مثلاً أنّ أول رئيس وزراء لجمهورية مصر العربية بعد ثورة 25 يناير كان هو الدكتور عصام شرف والذي كان في الواقع أستاذ لعلم هندسة الطرق بكلية الهندسة في جامعة القاهرة، كما تم إعارته لعدة سنوات لكلية الهندسة بجامعة الملك سعود بالرياض.
طبعاً كما هو معلوم فإن أبرز شخصية سياسية عربية في الوقت الحالي هو الدكتور محمد مرسي الذي يعتبر أول رئيس مصري منتخب في تاريخ مصر هو أستاذ ورئيس قسم هندسة المواد بكلية الهندسة بجامعة الزقازيق وبحكم تخصصه الأكاديمي له العديد من الأبحاث العلمية كان من أبرزها بحثه في الدكتوراه التي حصل عليها من جامعة جنوب كاليفورنيا عام 1982 و كان عن حماية معادن محركات مركبات الفضاء.
في نفس سياق السياسة المصرية المعاصرة نجد أن رئيس الوزراء المصري الحالي الدكتور هشام قنديل هو حاصل على درجة الأستاذية (بروفيسور) في تخصص هندسة المياه وكان يعمل في المركز القومي لبحوث المياه بالقاهرة وهو في الأصل حاصل على درجتي الماجستير و الدكتوراه في الهندسة من جامعة نورث كارولينا الأمريكية. أما أول رئيس دولة عربية في زمن الربيع العربي فهو الرئيس التونسي المناضل المنصف المرزوقي وهو في الأصل طبيب حاصل على شهادة الطب من إحدى الجامعات الفرنسية كما انه أستاذ جامعي حيث عمل لفترة في قسم الأعصاب بجامعة تونس. و سوف نجد أن ظاهرة تسنيم المناصب الحكومية العليا للعلماء تتكرر بنفس الزخم في ليبيا الحرة و من ذلك مثلاً أن أول رئيس وزراء منتخب في ليبيا الحرة بعد الإطاحة بنظام العقيد الغاشم كان الدكتور عبدالرحيم الكيب وهو أستاذ جامعي بجامعة طرابلس متخصص في مجال الهندسة الكهربائية وقد شغل عدة مناصب إدارية أكاديمية (كرئيس قسم أو وكيل كلية) بجامعات خليجية في قطر والإمارات كما درس في عدد من الجامعات الأمريكية.
وبحكم أن فترة رئاسته للحكومة الليبية كانت لفترة انتقالية ومؤقتة لذا فإنه تم في نهاية عام 2012 تم انتخاب الدكتور مصطفى أبو شاقور ليكون أول رئيس وزراء حقيقي ينتخب في ليبيا. والدكتور أبو شاقور حاصل على درجة الدكتوراه في الهندسة الكهربائية من جامعة كالتك الأمريكية العريقة جداً (أكثر جامعة في العام حصل علمائها على جوائز نوبل) كما أنه كان أستاذ الهندسة الإلكترونية في عدد من الجامعات الأمريكية في ولاية نيويورك و الاباما كما كان الرئيس المؤسس لجامعة روتشستر للتكنولوجيا في مدينة دبي.
علماء في سدّة الحكم
ولا يجدر الانتهاء من هذا السرد دون الإشارة إلى أن العديد من الشواهد التاريخية قديماً و حديثاً التي أن تبين أن الشعوب و الأمم تقوم في لحظات سياسية أو اقتصادية حاسمة باختيار العلماء لتولي مهام الحكم وذلك ثقة في مزايا التفكير العلمي المنضبط و التجريد الذهني التي يتحلى بها العلماء و من ثمّ يمكن أن تنعكس هذه الخبرات التفكيرية على أدائهم السياسي والإداري في قيادة دفة حكومات الشعوب بأمان و كفاءة. ويكفي أن نشير لبعض أبرز الأمثلة الحالية من واقع أهم دول العالم فالرئيس الصيني الحالي جينتاو هو Hu Jintao متخصص في مجال هندسة المياه و لقد عمل لفترة طويلة في عدد من الأعمال الهندسية المتعلقة بمشاريع بناء محطات توليد الكهرباء. من جانب آخر نجد أنه منذ عام 2005 شهد المسرح السياسي الألماني تسنم المستشارة أنجيلا ميركل لمنصب رئاسة الحكومة الألمانية لتصبح بذلك أول امرأة في التاريخ الألماني تحقق مثل هذا المنصب السياسي الرفيع.
بقي أن نقول أن أنجيلا هي في الأصل باحثة علمية بامتياز حيث أنها حاصلة على شهادة الدكتوراه في الفيزياء كما انها عملت لفترة من الزمن كباحثة في المعهد المركزي للكيمياء الطبيعية ببرلين ثم عملت في مجال كيمياء الكم، هذا بالإضافة إلى أنها متزوجة من عالم كيمياء متميز على المستوى الدولي. و قبل عدة سنوات فقط كان رئيس الهند أبو بكر زين العابدين عبد الكلام وهو أحد أبرز علماء و مهندسي الهند، فقد درس الفيزياء و علم هندسة مركبات الفضاء و لعب دور رئيسي في ارتقاء الهند في مجال أبحاث الفضاء ولهذا كان قديماً يشتهر في الهند (بالرجل الصاروخ) وهو حالياً مشهور في الهند بلقب جديد أكثر أهمية و هو لقب (أبو القنبلة الذرية الهندية).
وبالعودة قليلاً للوراء لا يمكن إغفال الإشارة إلى واحدة من أشهر وأهم الأمثلة لهجرة علماء المختبرات العلمية إلى العروش السياسية و هو ما حصل مع المرأة الحديدية مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة والتي كانت من منسوبي مهنة الكيمياء حيث أنها حصلت على درجة البكالوريوس في علم الكيمياء من جامعة أكسفورد العريقة. وأثناء دراستها في أكسفورد كانت تدرس و تتلمذ على يد واحدة من أهم النساء في تاريخ الكيمياء وهي الكيميائية الانجليزية دورثي هودجكن ذات الإسهام الكبير في التعرف على تركيب عدد من المركبات البيولوجية الهامة و الحائزة على نوبل عام 1964.
لقد كانت تاتشر تدرس كطالبة في السنة الرابعة في مختبر هودكنج لأبحاث التركيب البلوري X-Ray Crystallography حيث تعاونت معها في جزء من أبحاثها الشهيرة في تحديد التركيب الكيميائي لمركب فيتامين B الذي استغرق جهداً طويلاً (بلغ أكثر من ثلاثين سنة) من هودجكن لإكماله. وكدلالة على أثر و تقدير هودجكن على الشابة تاتشير نجد أن الأخيرة عندما أصبحت رئيسة وزراء بريطانيا أمرت أن تعلق صورة لهودجكن في مقر الحكومة البريطانية في 10 داوننغ ستريت (10 Downing Street). وعلى ذكر علماء الكيمياء و وصولهم للمراكز القيادية في مجتمعاتهم كما حصل مع السيدة تاتشر يمكن أن نقرر أنها في الواقع و لدرجة ما كانت تسير على خطى الكيميائي البريطاني اليهودي الشهير حاييم وايزمان Chaim Weizmann الذي كان أستاذ علم الكيمياء بجامعة مانشيستر كما أنه كان أول رئيس للكيان الصهيوني المزروع. تجدر الإشارة إلى أنه كان لوايزمان دور كبير في حصول الكيان الإسرائيلي الغاشم على وعد بلفور Balfour Declaration السيئ الذكر حيث تم التعارف بين لورد البحرية البريطاني اللورد آرثر بلفور و بين وايزمان الذي كان يشغل منصب مدير البحوث الكيميائية في البحرية البريطانية ونتج عن ذلك صداقة عميقة بينهما نال شؤمها أهل أكناف بيت المقدس.
لعل من المناسب قبل أن نختم حديثنا أن نشير إلى أن ظاهرة تولي العلماء العرب للمناصب السياسية العليا هي ظاهرة عريقة و قديمة في التاريخ الإسلامي وليست مقصورة على ما بعد عصر الربيع العربي الميمون. ومن أبرز الأمثلة في هذا الشأن أن الطبيب والعالم المسلم الكبير أبن سينا انخرط بالسياسية بشكل متكرر لدرجة أنه تولى منصب الوزير الأول لدى سلطان همذان الأمير شمس الدولة كما تولي منصب الوزارة لأكثر من مره عند سلاطين آخرين. وعالم البصريات العربي الشهير الحسن أبن الهيثم يقال أنه تولى هو الآخر منصب كبير وزراء البصرة، بينما الكيميائي والشاعر المسلم المبدع الطغرائي شغل منصب الوزارة في عهد السلطان مسعود بن محمد في ولاية الموصل وكذلك نجد أن عالم الفلك المثير للجدل نصير الدين الطوسي كان مستشاراً و وزيراً لدى الحاكم المغولي هولاكو. و من الأمثلة الإضافية كذلك نذكر أن الطبيب الأندلسي ابن زهر نال حظوة لدى الحاكم المرابطي عبد المؤمن والذي عينه طبيباً في بلاطه ومستشاراً شخصياً له وخلع عليه رتبة الأمير.
وبالجملة ربما يكون أهم منصب سياسي كان بالإمكان الوصول له من قبل عالم عربي هو منصب الخلافة حيث كاد أول كيميائي و عالم عربي و هو خالد بن يزيد بن معاوية أن يكون ثالث خليفة من خلفاء بني أمية لكن الظروف السياسية الخطيرة جعلت أهل الرأي من بني أمية يفضلون إعطاء الحكم إلى شخصية عبد الملك بن مروان القوية لضمان استمرار الحكم لبني أمية أمام الفتن و الانشقاقات الخطيرة من قبل مصعب بن الزبير والخوارج. صحيح بأن خالد بن يزيد لم ينل منصب الخلافة قط لكنه ظل لفترة من الزمن في منصب ولي العهد الخليفة بعد مروان بن الحكم لكن لم يلتئم له الأمر وانقلب عليه مروان فعيّن ولده عبد الملك على الخلافة بعده. وبولاية خالد بن يزيد لولاية عهد الخلافة الإسلامية لعله بهذا يكون صاحب أكبر منصب سياسي يناله أي عالم عربي في التاريخ.
وختاماً، و بعد هذا التطواف بين رجال العلم و السياسية من عرب و عجم لا بد أن نكون منصفين و نذكر الحقيقة المرة أن (العالم الحاكم) عندما يتسنم قيادة الدول والشعوب لا يتوقع أنه ينجح دائماً ويوفق في مساعيه حتى وإن كانت مخلصة و وطنية. ومن أسوء الأخبار المحرجة لنا أهل العلوم أن الرئيس الأمريكي هربرت هوفر Hoover الذي تولى في أواخر العشرينات من القرن العشرين ( الرئيس رقم 31 في التاريخ الأمريكي) قد كانت دراسته الجامعية في علم الجيولوجيا وكان له خبرة عالية في مجال كيمياء التعدين وبالرغم من خبرته العلمية هذه إلا أن أدائه السياسي كان ضعيفاً بشكل واضح. ويكفي أن نذكر أنه بدل أن يحقق الرخاء للشعب الأمريكي حصل في عهد حكمه أضخم كارثة اقتصادية على الإطلاق في التاريخ الأمريكي وهي المعروفة بكارثة (الكساد الكبير great depression). وهذا يدل على أن معاشر العلماء هم في سلوكهم البشري مماثلون لبقية البشر ففيهم الملهم والموفق والمسدد وفيهم التعيس و المنكوب. و لكن يبقى ما يفرق ويميز العلماء الحكام عن الحكام الآخرين أن العلماء مولعون ومجبولون على البحث والاستقصاء، ولذا عندما يخفقون فهم في الغالب سوف يسترشدون بقول الأديب الأمريكي الشهير إرنست همنغواي (إذا عرفنا كيف فشلنا نفهم كيف ننجح).
البريد الالكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com