يتضمن التراث الأنثروبولوجي رصيداً كبيراً من المصطلحات الدالّة على الطبابة الشعبية المتنوعة. ويظهر هذا التعدد و التنوع في المصطلح الدال على ذات المعالج حيناً، وفي التخصصات العلاجية الشعبية حيناً آخر. فالشخص المعالج بالأعشاب والنباتات مثلاً يطلق عليه اسم (العشّاب) أو (العطار)، ومعالج الكسور والفلتات المفصلية اسم (الجبّار)، والمعالج بالآيات القرآنية اسم (الطالب) أو (الفقيه).
هكذا تزداد المصطلحات المستخدمة تعدداً وتقدماً داخل الثقافة الشعبية الجزائرية. فما بالنا بالثقافات المغايرة الأخرى. فالشواهد الاثنوغرافية تؤكد على أن المعالجين الشعبيين غالباً لا يقتصرون على حرفة العلاج الشعبي فحسب، وإنما هم يمارسون حرف أخرى، علاوة على شَغلهم أوضاعاً اجتماعية مغايرة. و لعل صورة الفلاح في المجتمع الجزائري أدق مثال على ذلك، حيث نجده يمارس مهنة الفلاحة و نفس الوقت يمارس مهنة الطبابة مثل: الختان (الطهارة)، وتجبير الكسور والكي والحجامة.
من ناحية أخرى لاحظنا من خلال الدراسة الميدانية الاجتماعية الأولية التي قمنا بها في بعض المناطق (حوض تافنة) على أن كثرة التخصصات العلاجية الشعبية في تزايد، وقد حاولنا حصرها في الممارسات التالية: العلاج بالأعشاب والنباتات الطبية؛ العلاج بالكي؛ العلاج بالحجامة؛ العلاج بالوصفات العلاجية الشعبية؛ المعالجة بالتجبير (الجبار)؛ معالجة اللوزتان (الجياف)؛ العلاج بالقرآن الكريم.
الملاحظ أن بعض هؤلاء المعالجين الشعبيين يقدمون خدماتهم العلاجية مقابل مبلغ نقدي غالباً ما يكون رمزي أو عيني. في حين يرفض البعض الآخر أخذ الأجرة، على أن يقدموا خدماتهم للمحتاجين باعتبار أن هذه الخدمة صدقة علم أو محبة له. ومن زاوية أخرى لاحظنا تعدد مصادر الخبرة العلاجية لهؤلاء المعالجين الشعبيين ما بين الوراثة والاكتساب، والممارسة الواقعية (التجريب) واستمداد الخبرة و المعرفة من المصادر المكتوبة مثل الكتب والمخطوطات وغيرها.
يتفاوت المعالجون الشعبيون فيما بينهم في حجم الشهرة التي حققوها و يحققونها. فبعضهم تتجاوز شهرته حدود المنطقة المحلية التي يعيش فيها على مستوى المجتمع الواحد و أحيانا تتجاوز الشهرة حدود المجتمع الكبير إلى غيره من المجتمعات المجاورة. كذلك قد يعتمد بعضهم على مساعدين له في الممارسة مثل (المعالج بالحجامة)، في حين يكتفي البعض بشخصه مثل (المعالج بالأعشاب و الوصفات الشعبية). والواقع أن قضايا الصحة و المرض أضحت تتجاوز النظرة الطبية أو البيولوجية المحدودة، لتبلغ تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية المتنوعة حول الأسباب و الوقاية والنتائج. والمجتمع الجزائري مشبع بتراث علاجي شعبي لا مجال لحصره يغطي معظم مجالات الصحة والمرض، وقايةً وعلاجاً.
إن ممارسة العلاج الشعبي يتطلب خبرة و مهارة قد تكون مستمدة عن طريق الوراثة من أحد الأقارب، أو مكتسبة عن طريق مواصلة القراءة و التحصيل الذاتي. وبعبارة أخرى فإن العلاج الشعبي يتضمن أنماطاً عديدة من التخصصات والمعالجات والأساليب والأدوات. ولذلك فقد يشتهر معالج ما في نمط علاجي دون غيره، وعلى هذا فإن الثقافات المختلفة عادة ما تحوي ما يطلق عليه بالتخصص العلاجي. فهناك معالج متخصص في العلاج بالكي، وآخر في الحجامة وثالث في تجبير العظام والفلتات المفصلية، وكلها تخصصات تتطلب الخبرة والتجربة الطويلة. إضافة إلى أن هناك علاجات قائمة على الأساس العقلي و التحصيلي مثل العلاج بالأعشاب و النباتات الطبية، إلى علاجات أخرى تعتمد على تسخير الكائنات فوق الطبيعية مثل علاج السحر والصرع.
في ضوء هذا الزخم المعقد يتزايد عدد المعالجين بالأعشاب ومجبري العظام والفلتات المفصلية، والمعالجون بالحجامة، والمعالجون بالكي والمعالجون بالسحر في المجتمع الجزائري. والواقع أن مفاهيم الصحة والمرض والوقاية والعلاج تعدّ نتاجاً للثقافة السائدة، ولذلك فهي تفسر على أساس المعتقدات الشعبية حول جسم الإنسان وعلاقته بالعالم الطبيعي الذي يعيشه ويدركه، والعالم فوق الطبيعة الذي يعجز عن ادراكه، وما يحويه من الكائنات المتنوعة، و منها الملائكة والجن. ولا يخرج تفسير المعالج الشعبي عن هذه التصورات، وكذلك تفسير الأفراد لأسباب المرض.
لعلنا نلاحظ في ضوء نظرية العلامات (Signatures) ونظرية التوازن (Equilibre) في الطب الشعبي يفسر المعالجون والمرضى المرض و يشخصون أسبابه. ولذلك نجد المعالج بالكي يرد "لا يفلح الحديد إلا بالحديد" بحيث يفسر الأمراض التي يعالجها بالكي بأنها ناتجة عن عروق لا يتمكن الطب الحديث من علاجها ولا تجدي الأدوية الحديثة معها نفعاً، وقد يفلح الكي في إماتة العروق فيموت معها المرض. ولذلك يقوم بكيها بالنار سبع مرات أحياناً حتى يتخلص منها المريض نهائياً.
دراسة ميدانية علمية شيّقة ندعوكم للاطلاع عليها في ملف الـPDF أعلى الصفحة
البريد الالكتروني للكاتب: homme_tlm13@hotmail.fr