إذا ما سألت أحد المختصّين أن يُعِدّ لك قائمة بأبرز علماء الفيزياء المعاصرين، فلا شكّ أن عالم الفيزياء النظرية الأمريكي ستيفن واينبرج سيكون على رأس هذه القائمة. فهذا الرجل يشكّل أسطورة علمية حيّة.
إسهاماته العلميّة في مجال الفيزياء النظرية لا تقل أهمية عن إسهامات فاينمان وديراك وغيرهم من الرعيل الأول للفيزياء الحديثة. فاز هذا العالم بجائزة نوبل بالشراكة مع عالمين آخرين بسبب أبحاثهم التي أدّت لتوحيد قوتين أساسيتين في الطبيعة من أصل أربعة (القوة النووية الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية). وقد عاشر وتعلّم هذا الرجل من أبرز علماء الفيزياء في التاريخ و ساهم مساهمة كبيرة في تشكيل فيزياء الجسيمات الأوّلية. وفي المقال التالي الذي كتبه هذا الرجل قبل فترة ليست بالقصيرة لمجلة نيتشر، يستحضر واينبرج مسيرته العلميّة ليقدّم لك زبدة خبراته وتجاربه في أربع نصائح ذهبية يوجهها للعلماء الشّباب الذين وضعوا أقدامهم للتو على طريق العلم. أتمنى لكم الفائدة، وأترككم الآن مع المقال.
عندما حصلت على درجة البكالوريوس – قبل حوالي مئة عام – كان علم الفيزياء يبدو بالنسبة لي كمحيط شاسع غير مستكشف، وينبغي علي أن أدرس كل جزء منه قبل أن أبدأ أي من أبحاثي الخاصة. كيف سأستطيع أن أحقق أي شيء دون أن يكون لدي إلمام بكل ما تم إنجازه بالفعل؟
لحسن الحظ، أثناء سنتي الجامعية الأولى، كان لي حظ جيّد بأن وقعت بين يدي عالم فيزيائي بارز، و الذي أصرّ رغم اعتراضاتي المصحوبة بالقلق بأنه علي أن أبدأ بالعمل البحثي، وأتعلّم ما أحتاج إلى معرفته أثناء رحلتي البحثية. لقد كان الأمر محصوراً بين الغرق والنجاة، النجاح أو الفشل. ولدهشتي، وجدت أنّ هذا الأمر يؤتي ثماره. فقد تمكّنت من الحصول على درجة الدكتوراه بسرعة على الرّغم من أني عندما حصلت عليها لم أكن أعرف شيئاً تقريباً عن الفيزياء. لكنّي تعلّمت أمراً مهمّاً: وهو أنّه لا أحد يعرف كل شيء، و ليس عليك أن تعرف كلّ شيء.
الدرس الآخر الذي يجب تعلّمه، و سأستمرّ باستخدام مجازاتي حول المحيطات، هو أنّه أثناء سباحتك وتجنّبك للغرق يجب عليك أن تتجه صوب المياه الهائجة. عندما كنت أدرّس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أواخر الستينات، أخبرني أحد التلاميذ أنه يريد أن يخوض في مجال النسبية العامة بدلاً من المجال الذي كنت أعمل فيه، وهو فيزياء الجسيمات الأوّليّة، و ذلك لأن مبادئ الأولى كانت معروفة بشكل جيّد، بينما الثانية بدَت مشوّشة بالنسبة إليه. لقد أدهشني بأنه أعطاني مجرّد سبب وجيه جدّاً لفعل العكس. ففيزياء الجسيمات كانت مجالاً لا يزال من الممكن أن تُبذَل الأعمال الإبداعية فيه. لقد كان بالفعل غير منظّم ومشوّش في الستينات، لكن منذ ذلك الوقت استطاعت جهود العديد من الفيزيائيين النظريين والتجريبيين أن يرتبوا أمرها، و أن يضعوا كل شيء (بشكل أدقّ، معظم الأشياء) سويّاً في نظريّة جميلة تُسمّى النموذج المعياري. نصيحتي هي أن تذهبوا نحو الأمور المشوّشة، فهي التي يَكمُن فيها العمل الفعّال.
الجزء الثالث من نصيحتي هو ربما الأصعب في أخذه. وهو أن تسامح نفسك في إضاعة الوقت. يُطلب من الطلاب أن يقوموا فقط بحلّ المسائل التي يعرف أستاذتهم (ما لم يكونوا قساة بشكل استثنائي) أنها قابلة للحلّ. إضافة إلى ذلك، لا يهم إذا كانت هذه المسائل مهمّة علميّاً –يجب أن يتم حلّها حتى تجتاز المادة بنجاح. لكن في العالم الحقيقي، من الصعوبة الشديدة معرفة أيّ المسائل مهمّة، ولن تعرف أبداً إذا ما كانت في فترة ما من التاريخ مسألةً ما قابلة للحل أم لا.
في بداية القرن العشرين، العديد من الفيزيائيين البارزين، بما فيهم لورنتز و أبراهام، كانوا يحاولون إنشاء نظرية للإلكترون. بشكل جزئي، كان ذلك بُغيةً فهم السبب وراء فشل كل المحاولات لكشف التأثيرات الناتجة عن حركة الأرض عبر الأثير. نعرف الآن أنهم كانوا يعملون في المسألة الخطأ. لكن في ذلك الوقت، لم يكن بمقدور أحد أن يطوّر نظرية ناجحة حول الإلكترون، لأن ميكانيكا الكم لم تكن قد اكتُشفت بعد. لقد تطلّب الأمر عبقريّة ألبرت أينشتاين في 1905 لاستنتاج أن المسألة الصحيحة التي يجب الخوض فيها هي تأثيرات الحركة على قياسات الزمان والمكان.
وقد قاده هذا الأمر إلى النظرية النسبية الخاصة. بما أنّك لن تعرف أبداً على وجه التأكيد أي المسائل هي الصحيحة للخوض فيها، فإن معظم الوقت الذي تقضيه في المختبر أو على مكتبك سوف يكون مُهدراً. إذا أردت أن تكون مُبدعاً، سيتوجب عليك أن تعتاد على قضاء معظم وقتك دون كونك مبدعاً، بل بكونك هادئاً في محيط المعرفة العلميّة. وأخيراً، تعلّم شيئاً عن تاريخ العلم، أو على الأقل عن تاريخ الفرع الخاص بك من العلم. السبب الأقل أهميّة لذلك هو أن التاريخ قد يكون في الواقع له استخدام وفائدة في عملك العلمي الخاص. على سبيل المثال، بين الحين والآخر يُعرقَل العلماء من خلال إيمانهم بواحدة من نماذج العلم شديدة التبسيط التي تم وضعها بواسطة فلاسفة من فرانسيس بيكون إلى توماس كون و كارل بوبر. أفضل علاج مضاد لفلسفة العلم هو تاريخ العلم.
الأهم من ذلك، هو أن تاريخ العلم بإمكانه أن يجعل عملك يبدو ذو شأن و جدير بالاهتمام بالنسبة إليك. كعالم، فإنك على الأرجح لن تصبح غنيّاً، أصدقاؤك وأقرباؤك لن يفهموا أعمالك. وإذا كنت تعمل في مجال كفيزياء الجسيمات الأوّلية، فإنك لن تحظى حتى بقناعة بأنك تعمل على أشياء لها مردود مفيد فوري. لكن يمكنك أن تحظى بالقناعة والارتياح من خلال إدراكك أن عمَلك في العلم هو جزء من التاريخ.
أنظر إلى الماضي قبل 100 عام، إلى عام 1903. ما مدى الأهمية في أيامنا هذه لمن كان رئيس وزراء بريطانيا العظمى في عام 1903، أو رئيس الولايات المتحدة؟ ما يبرز باعتباره مهم فعليّاً هو أنه في جامعة ماكجيل (McGill University) كان إرنست رذرفورد وفريدريك سودي يعملان على فهم طبيعة النشاط الإشعاعي. هذا العمل (بالطبع!) له تطبيقات عمليّة، لكن الأكثر أهمية هو الآثار الثقافية التي ترتبت عليه. فهم النشاط الإشعاعي ساعد علماء الفيزياء على تفسير كيفية بقاء مركز الشمس ومركز الأرض بهذه الحرارة رغم مرور ملايين السنين. بهذه الطريقة، تمت إزالة آخر الاعتراضات العلمية على ما اعتقد العديد من علماء الجيولوجيا وعلماء الحفريات بأنه كان العمر الكبير للشمس وللأرض.
بعد ذلك، اضطر المسيحيين واليهود إما للتخلي عن الاعتقاد بالحقيقة الحرفية للكتاب المقدّس أو أن يسلّموا أنفسهم لعدم جدوى التفكير. هذا كان مجرد خطوة واحدة في سلسلة من الخطوات منذ جاليليو مروراً بنيوتن وداروين إلى العصر الحاضر والتي، مرة تلو الأخرى، أضعفت من سطوة الدوغمائية والسطوة العقائدية. في العصر الحالي، قراءة أي صحيفة كافٍ لأن يبيّن لك بأن هذا العمل لم يكتمل بعد. وإنما هو عمل حضاري يجعل العلماء قادرين على الشعور بالفخر به.
المرجع