مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

أطفال حسب الطلب – التجربة الصينية

الكاتب

الكاتب : دكتور طارق قابيل

أستاذ التقنية الحيوية المساعد كلية العلوم والآداب ببلجرشي جامعة الباحة - المملكة العربية السعودية

الوقت

04:19 مساءً

تاريخ النشر

14, مايو 2015

أثارَ الإعلان عن تجربة صينية لإعادة تحرير (تنقيح) الجينوم البشري لأول مرة في التاريخ جدلًا شديدًا، وأظهر العلماء قلقًا حول إمكانية استخدام هذه التقنية قبل التأكد من سلامتها من قِبَل أطباء الخصوبة؛ لتحرير جينات الأجنة البشرية. وحذر العلماء من ان تغيير الحمض النووي للحيوانات المنوية والبويضات او الأجنة يمكن ان يأتي بتأثير غير معروف، وغير مأمون العواقب على الأجيال القادمة لأن هذه التغييرات تنتقل الى الذرية.

وعلى الرغم من أن الدراسة الصينية استخدمت عمدًا أجنة غير قابلة للتطور لإنتاج أجنة يُمكن ولادتها حية فإن ثمة جدلاً واسعًا في أوساط الباحثين والمهتمين بالبحوث العلمية حول العالم وبصفة خاصة في مجال الهندسة الوراثية البشرية حول الآثار الأخلاقية المترتبة على بدء مثل هذه البحوث الممنوعة في معظم الدول نظرًا لأن التغييرات التي تُحْدِثها هذه التقنية متوارثة، وبالتالي ستكون مفروضة على جميع الأجيال المتعاقبة.

التجربة الصينية

تم نشر هذه الدراسة الصينية الحديثة، في مجلة البروتين والخلية «بروتين آند سيل»، بعدما تم رفض نشرها من قبل هيئات التحرير في مجلتي «Nature» و«Science» الأعلى مستوى عالميًا بين جميع الدوريات العلمية المتخصصة لأسباب أخلاقية. وشمل الفريق العلمي 16 شخصًا بجامعة «صن يات سين» في كانتون قوانجتشو بالصين. وشملت الدراسة محاولة تصحيح الخلل الجيني الذي يسبب أحد أنواع اضطرابات أمراض الدم القاتلة وهو مرض "بيتا ثلاسيميا" (Beta-Thalassemia)، عن طريق تحرير الحمض النووي في بويضات مخصبة مأخوذة من خلايا أجنة مصدرها إحدى عيادات الخصوبة في الصين.

واستخدم الباحثون في الدراسة ما مجموعه 86 جنينا بشريا غير حي، وتمكن 70 جنينا منها من البقاء حيا طوال مراحل التجارب. ولم تتقبل سوى نسبة من الأجنة إضافة الأجزاء الوراثية التي أُريد لها أن تحلّ محل أجزاء الجينوم البشري المعيب المسؤول عن مرض "بيتا ثلاسيميا" الوراثي. وكانت مجموعة الخلايا التي تمت تنشئتها بالتعديل الوراثي هذا مزيجًا من خلايا تغيرت وخلايا بقيت كما هي دون أي تغيير.

ومرض الثلاسيميا والمعروف بمرض حوض البحر الأبيض المتوسط هو مرض وراثي يؤدي إلى انخفاض الهيموجلوبين وتكسر كريات الدم الحمراء وهذا يؤدي بالتالي إلى فقر الدم الوراثي. والثلاسيميا مرض انحلالي دموي يحمل الصفة المتنحية وهذا يعني إنه إذا كان كلا الأبوين حاملان لجين المرض حدث المرض عند 25% من الأبناء والبنات أي أن هناك احتمالا يصل إلى 25% عند كل حمل أن يكون المولود مصابا بالثلاسيميا أما إذا كان أحد الوالدين فقط يحمل الصفة الوراثية للثلاسيميا فلا يوجد أي احتمال لولادة طفل مصاب بالثلاسيميا. وتنتقل الثلاسيميا من الآباء إلى الأبناء، ولها تأثير على جميع الوظائف البيولوجية والوراثية. ويكـون الخلل إما في السلسلة الفا وهذا ما يعرف بـالفا ثلاسيميا (Alpha Thalassemia) أو السلسلة بيتا وهذا ما يعرف ببيتا ثلاسيميا (Beta Thalassemia) وهي الأكثر انتشاراً.

وقدم العلماء الصينيون خلال هذه التجربة إنزيمات ترتبط مبدئيا بالجين الطافر الحامل للمرض، ومن ثم يقوم هذا الإنزيم باستبدال الجين أو إصلاحه. وكان هدفهم الرئيس في التجارب هو جين يسمى HBB، الذي يحمل معلومات بروتين "جلوبين بيتا" البشري لأن الطفرات الوراثية في هذا الجين هي المسؤولة عن مرض "بيتا ثلاسيميا". ونتيجة تعديل الجينات لم تتمكن عشرات الأجنة من البقاء على قيد الحياة، أما الأجنة التي بقيت حية، فقد أظهر العديد منها آثارا "بعيدة عن الهدف"، مما يعني أن جينات أخرى، غير الجين HBB قد تأثرت. وبعض الأجنة الأخرى عانت من "طفرات غير مرغوب فيها"، إلا أن عددا قليلا جدا من الأجنة حافظت على الأحماض النووية سليمة، مما يعني أن العلماء استطاعوا إصلاح جينات HBB المعيبة فيها.

وأظهر تقرير الفريق العلمي أن الطريقة المستخدمة حاليا للتحرير الجيني ليست دقيقة تمامًا، مؤكدا بذلك الشكوك العلمية حول صعوبة إنتاج «بشر معدلين وراثيًا» أو «أطفال حسب الطلب» يُمكن ولادتهم أحياء. وهو ما عبّر الباحثون عنه بقولهم هناك حاجة ملحة لتحسين دقة التحرير الجيني قبل أن يمكن تطبيقها إكلينيكيا لإصلاح الجينات.

وأكد الفريق العلمي إن من بين المشكلات التي واجهته، أن الجنين في بعض الأحيان يتجاهل قالب الجينوم المُضاف، وبدلا من ذلك يعمل على إصلاح نفسه باستخدام جينات مماثلة من الجينوم الأصلي الخاص به، مما يؤدي إلى طفرات وراثية غير مرغوب فيها. وأضافوا أنهم توقفوا عن البحث بعد النتائج السيئة لأنه يتعين عليهم أن يكونوا دقيقين مائة في المائة من أجل الحصول على أجنة طبيعية، وهو ما دفعهم للتوقف، وعبر الباحثون عن اعتقادهم أن التقنية المتوفرة والتي استخدموها لاتزال غير ناضجة.

واعترف الباحثون أنهم لم يُحاولوا تحقيق عملية الحمل من الأجنة التي تم إجراء التجارب عليها لدواعي أخلاقية، وأن طريقتهم اقتصرت على استخدام أجنة كانت غير طبيعية وغير ملائمة للزراعة في الرحم من عيادات التخصيب الصناعي. 

نظام كرسبر / كاس9

يسمح نظام التنقيح الجينومي كريسبر/كاس9، وهو يمثل النسخة البيولوجية لوظيفة «البحث والاستبدال» المستخدمة في برنامج معالجة النصوص في الحواسيب الذكية، للعلماء بتغيير وظائف الجينات باستبدال أحرف الحمض النووي بدقة كبيرة كما يسمح بتحرير جينومي سريع ودقيق للخلايا الجسدية، ويبرهن يوما بعد يوم على أنه أداة مفيدة لدراسة وعلاج الأمراض.  فهو يستغل قدرة إنزيم إندونوكلياز البكتيري، كاس9، مُوَجهًا بجزيء حمض نووي ریبي، ليستهدف فعليًا أي تتابع لحمض نووي مطابق وهام للتقیید و/أو الانقسام.

وظهر هذا النظام للوجود في يونيو 2012، بعد أن نشر فريق بحثي صغير مكون من باحثتين تقريراً مهماً يُظهر كيفية تحويل الآلية الطبيعية إلى أداة تحرير قابلة للبرمجة تسمح للباحثين بقطع أي شريط حمض نووي، في أنبوب الاختبار. وخلال الأشهر الأخيرة، أظهر العلماء أنه من الممكن استخدام نظام كريسبر/كاس9 لتخليص الفئران من ضمور العضلات ولشفائها من مرض نادر في الكبد، وجعل الخلايا البشرية محصنة ضد فيروس نقص المناعة البشري، وتعديل القردة جينياً. وتثبت هذه الدراسات قوة نظام التنقيح الجينومي كريسبر/كاس9 لسبر وظيفة الجينات المسرطنة المفترضة والجينات الكابتة للورم في نماذج الفأر بسرعة أكبر من طرق البحث السابقة.

وتُظهر الدراسات العلمية الطبية أن عدداً من العلماء نجحوا في تطبيق كرسبر/كاس9 على خلايا بشرية. وذكرت مجلة "تكنولوجي ريفيو" التي يصدرها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مؤخرا ان هناك ما لا يقل عن ست تجارب منتظرة أو جارية باستخدام هذه التقنية على البويضات او الاجنة البشرية لإصلاح عيوب جينية مثل التي تسبب التليف الكيسي او الجين المسبب لسرطان الثدي. وقال مصدر صيني مطلع على التطورات في هذا المجال أن هناك أربع مجموعات على الأقل في الصين يسعون وراء التعديل الجيني للأجنة البشرية.

خط أحمر لا يجب تجاوزه

جدد علماء من مختلف أنحاء العالم، الدعوة من أجل وقف الأبحاث المثيرة للجدل المتعلقة بالتعديلات الجينية البشرية على الأجنة، وقال منتقدون إن العلماء قد يحصلون على نتائج غير معروفة في الأجيال المستقبلية، وقد يفتح الباب على عصر جديد من النسل البشري يحل محل البشر لأنهم يحملون الصفات الجينية المرغوبة. وقال العلماء المعارضون، إنه "بناء على مضامين السلامة والمضامين الأخلاقية المهمة في التعديل الجيني على الخلايا البشرية، فإن هذا البحث "سابق لأوانه إلى حد كبير". وأضافوا أنه من غير المقبول السعي لهذا النوع من الأبحاث في هذا الوقت، ونحن ندعو إلى استصدار مذكرة عالمية بشأن هذه الأبحاث للسماح بإجراء مناقشة قانونية شفافة واستكمال النقاش العام بخصوص هذا العلم والسلامة وأخلاقيات تعديل الأجنة البشرية.

وأثار الاكتشاف الجديد قلقًا لدى الأوساط العلمية، التي اعترضت على عمليات تعديل الجينوم البشري في الوقت الحالي، وخصوصًا مع الفهم الضئيل لطبيعة الجينات البشرية، وخطورة العبث بها، ويقول منتقدو هذه الدراسة إن هذه التجارب يمكن استغلالها في محاولة تعديل الصفات الوراثية للإنسان وهي تقنيات يطلق عليها "تحسين النسل".

ومؤخرًا، صرح الدكتور «فرانسيس كولينز» مدير المعاهد الوطنية للصحة، وهي جهة بحثية تابعة لحكومة الولايات المتحدة، بتصريح واضح، وموقف محدد، يعبر فيه عن الموقف الرسمي الأميركي من قضية تعديل التركيبة الوراثية للأجنة، ويمكن تلخيصه في أن الحكومة الأميركية، لن تدعم، أو تمول أبحاث في هذا المجال. وإن فكرة تغيير أو تعديل الخلايا التناسلية في الأجنة لأغراض طبية، قد تمت مناقشتها عبر عدة سنوات، ومن وجهات نظر مختلفة وجوانب متعددة، ويوجد اتفاق شبه عام على أنه خط أحمر لا يجب تجاوزه.

وفي الواقع، لا يُصنف «إنجاز» الباحثين الصينيين كطريقة جديدة للقيام بإعادة تحرير الجينوم البشري، بل يُصنف ضمن «جرأة» التبليغ ضمن دراسة علمية عن قيامهم بأعمال تطبيقية بحثية باستخدام تقنيات معروفة وتم اكتشافها منذ بضع سنوات، ولكن لم يتجرأ غيرهم على تطبيقها مثلهم لأسباب قانونية أو أسباب أخلاقية. وفى حقيقة الأمر لا تثير تقنية كرسبر/كاس9 أي مشكلة أخلاقية لدى تطبيقها على الأطفال والبالغين، بينما تتعقد الأمور عند استخدامها في الأجنة؛ حيث يتكون الجنين من عدد قليل من الخلايا، التي تكون فيما بعد الجسم البشري بأكمله، وإجراء تحرير للجينوم في هذه المرحلة ينتج عنه تغير دائم في جينومات هذه الخلايا.

وعلى الرغم من أن الفريق الصيني عمل على أجنة غير قابلة للحياة، ولن تُولد حية على الإطلاق، إلا أن استخدام تكنولوجيات تعديل الجينوم البشري أو تغيير الحمض النووي لا تزال أمر مشكوك فيه من الناحية الأخلاقية، لأنه قد يؤدى إلى استخدام المزيد من الطُرق على البشر في وقت لاحق، وهو ما قد يُسبب حدوث طفرات في الحمض النووي لا يُمكن التنبؤ بها في الأجيال القادمة، فيما يعتقد آخرون أن تلك التقنيات «لا تُقدر بثمن» وخصوصًا مع إمكانيات استخدامها «اللامحدودة»، فحال تطويرها، يُمكن أن تكون سببًا للقضاء على جميع الأمراض الوراثية.

وعلى الرغم من أن التطورات التكنولوجية، قد منحتنا طريقة جديدة سهلة لتغيير وتعديل المادة الوراثية، إلا أن الحجج القوية المعارضة للانخراط في مثل هذه العملية، والمخاوف التقنية والأخلاقية من تطبيقها على البشر لا تزال قائمة، ولهذا يجب تنظيم العمل بهذه التقنيات تحت رقابة جدية مشددة من الهيئات الرقابية الحكومية المتخصصة وعدم الموافقة على استخدام البشر كفئران تجارب لتطبيق مثل هذه التقنيات قبل التأكد من دقتها وعدم وجود أي آثار جانبية لها تؤثر على الأجيال القادمة.

البحث الصيني المثير للجدل

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x