مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

ماهو عمق المأساة؟

المضاعفات الصحية لحروب الخليج

الكاتب

الكاتب : د. مي رمزي الارناؤوط

طبيبة و باحثة اكاديمية مستقلة - اخصائية في السرطانيات والطب العام

الوقت

08:41 مساءً

تاريخ النشر

01, أبريل 2015

تعرضت منطقة الخليج وخاصة العراق مابين 1991 إلى 2004 الى وابل هائل غير مسبوق من مختلف المواد المشعة والكيمياوية السامة والتي الحقت اضرارا شديدة بصحة السكان. وقد استعمل بعض هذه المواد لاول مرة في تاريخ الحروب وبدون دراسات كافيةحتى اودعت هذه المواد الملوثة اخطارا بيئية وصحية جديدة في منطقتنا لم يعهدها التاريخ من قبل حقا (1). وسنحاول من خلال هذه المقالات تسليط الضوء على ابعاد هذه الكارثة ورسم الخطوط العريضة لاهم تفاصيلها ولاسيما في مايتعلق بالمضاعفات الصحية وعواقبها السلبية املين ان تتبلور الفكرة الى خطط وحلول حاضرة ومستقبلية لتفادي ماهو اعظم.

مقدمة

نبذة عن التلوث الاشعاعي والكيمياوي في منطقة الخليج مابين 1991 ولحد الان كان اليورانيوم المنضب وخاصة النظيرالمشع238 من المواد التي استخدمت لاول مرة  في الحروب وذلك في عام 1991. وقدرت الكميات التي سقطت على العراق في عام 2003 بـ 1100- 2200 طن من القنابل والرصاص الحامل لرؤوس اليورانيوم المنضب المسرطنة اي اكثر بخمس مرات مما استعمل في عام 1991 ومايعادل 89-250  قنبلة ذرية في تخمين الخبراء. ومن الجدير بالذكران هذا العنصرالاشعاعي الملوث  يحتوي على عاملين يتوجب اخذهما بنظر الاعتبار من ناحية السمية وهما : معدن اليورانيوم الثقيل نفسه والذي يمكن ان يسبب تلف الرئتين والجهاز العصبي والكليتين اذا ما دخل الى الجسم بتراكيزعالية وحتى خروجه منه عن طريق الادراربعد حوالي 48 ساعة, واشعة بيتا التي تطلقها جزيئات النظائر المشعة من المعدن (مع اشعاعات اخرى كالالفا والكاما) والتي تبقى في الجسم الى الابد بعد ان تتأين مع محتوياته لتضرب الخلايا القريبة والبعيدة بنبضات تتلف المادة الوراثية والحامض النووي وتسبب فيما تسبب السرطان.

كما يجدر القول بان اليورانيوم المنضب الذي استعمل في هذه الحروب لم يكن فقط خليطا من النظائرالمشعة 238 و234 التي توجد في الطبيعة ايضا ولكن بكميات قليلة جدا ولكنه احتوى ايضا على النظير236 وهو ناتج صناعي بحت من عملية التخضيب عند انتاج القنابل الذرية (2). وبعبارة اخرى فقد قصفت المنطقة ب ( النفايات النووية ) كوسيلة للتخلص منها ايضا. كذلك استعمل الفوسفور الابيض في2003 و 2004 بتراكيز بلغت مئات المرات فوق تلك  المسموح بها للاغراض العسكرية غير القتالية (3). واستعملت المعادن السامة كالتيتانيوم والنيكل في الاسلحة المستحدثة (4) وهذا بالاضافة الى اطنان من الرصاص والكروم والزئبق والزرنيخ التي نتجت عن استعمال الاسلحة المعتادة بكميات هائلة غير معتادة. وبالاضافة الى هذا كله فمن المعروف ان احتراق المواد العضوية والصناعية و خاصة تحت ظروف واطئة الاوكسجين (كما هو في اكوام المواد العضوية مثلا) يمكن بحد ذاته ان يؤدي الى تكوين مواد كيمياوية مسرطنة مثل مركبات(الدايوكسين) كنواتج عرضية. ومع ان المنطقة  التي استعملت فيها تلك المواد السامة كانت محصورة غالبا ضمن حدود العراق الجغرافية الا ان المناطق المجاورة لم تسلم من التلوث البيئي اما بصورة مباشرة عن طريق النضح والتسربات من مخازن العتاد الى التربة كما وجد في الكويت وقطر (1) او بصورة غير مباشرة بسبب العواصف الرملية والامطار والسيول التي لا تعرف الحدود الجغرافية.

ومما لايخفى ان اعدادا غير مسبوقة من الحالات المرضية الغريبة والتي يمكن ان تعزى كلها الى درجات متفاوتة من التلف الجيني كالعقم في الجنسين والاجهاض المبكر والتشوهات الجنينية والامراض السرطانية الشرسة في الكبار والصغاراجتاحت سكان المناطق المتعرضة في  جنوب ووسط العراق خاصة وفي غضون الاشهرالاولى التي تلت اول قصف (- جراحي- كما سمي انذاك) في 1991 والذي استخدمت فيه اسلحة اليورانيوم المشع بصورة خاصة والمواد الكيمياوية المسرطنة الاخرى بصورة عامة. وهذه فترات قصيرة جدا مقارنة بما هو معهود في تلك الحالات ومساراتها المرضية المزمنة. وتبعت هذه ظواهر مشابهة بعد قصف 2003 لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا وبعد مرور جيل كامل على بدأ التلوثات البيئية كما سنتطرق اليه فيما بعد بشيء من التفصيل. وكمثال فقد لوحظ ان معدل الاصابة بسرطان الدم الابيض (اللوكيميا) كمؤشر للتعرض الاشعاعي ارتفع 38 مرة في اطفال  العراق بعد القصف باليورانيوم المشع في 2003 مقارنة ب 17 مرة بعد تفجير القنبلة الذرية في ناكازاكي اليابانية ابان بدأ الحرب العالمية الثانية (5).                                                                                            

 وبينما تعارضت الاراء في عام 1991حول مصادر هذه الملوثات وحول مصداقية البحوث العلمية واراء الخبراء انذاك الا انه على قدر مايتعلق بالفترة2003 ـ 2004 هناك براهين علمية ثابتة جائت عن طريق القياسات المباشرة لمستويات الاشعاع او التحليلات المختبرية والاحيائية للنماذج الطبية (6) او حتى عن طريق الاعترافات ا لرسمية العرضية (7) تؤيد استعمال اليورانيوم المشع والمواد الكيمياوية السامة وانها وجدت طريقها الى التربة الرملية وتسربت منها الى المراعي والمياه السطحية (ويخشى الجوفية ايضا) عن طريق الرياح والامطار والسيول وبهذا دخلت الى الدورة الاحيائية  الطبيعية والمحاصيل الزراعية ولحوم الحيوانات ومنها الى السكان. هذا بالاضافة الى التعرض المباشرلهذه المواد الضارة و يتراكيزعالية عن طريق الجهاز التنفسي والفم والجلد (اللمس) او حتى عن طريق الجروح كما في شظايااليورانيوم المشع مثلا. ومن الجديربالذكر هوان الاخطار البيئية والصحية للعوامل المشعة مازالت مستمرة ومتجددة اذا اخذنا بنظر الاعتباران العمرالنصفي لليورانيوم المشع هوعشرات الالاف من السنين ثم مثلها لمنتجات تحلله المشعة ايضا (العمر النصفي هو المدة التي تنخفض فيها الفعالية الاشعاعية الى النصف بسبب التحلل الطبيعي للجزيئات المشعة) ومادامت مخلفات الحرب المشعة جاثمة في اماكنها تتاكل مع الامطاروعوامل التعرية لتتسرب الى المياه السطحية والى اعماق التربة الرملية ومنها الى المياه الجوفية.

اما اذا امكن ازالة المخلفات المشعة بطرق علمية مدروسة وصحيحة فسيمكن التخلص من تأثيرات الاشعاع المستمرة وتفادي سنينا طويلة وربما قرون من ا لتلوث البيئي واضراره الصحية القريبة والبعيدة المدى. فبقاء هذه المخلفات قد يؤدي الى التلوت الاشعاعي للمياه الجوفية في صحراء الخليج كلها وهي مصدرحيوي مهم لعدد كبيرمن السكان والحيوان والمرعى وهذا سيكون امرا خطيرا للغاية لان ازالة التلوث قد يكون مستحيلا في هذه الحالة كما يعتقد اخصائيي البيئة ولن يمكن التكهن بالعواقب الصحية المستقبلية في هذه الحالة. ومن الناحية الاحيائية هناك ايضا التغيرات الفوق وراثية (الابيجينية) في الحامض النووى للخلايا بعد تعرضها للعوامل البيئية التالفة و المضرة على اختلاف انواعها والتي سنتطرق اليها فيما بعد حيث ظهربان التغيرات او التلف الناتج في المورثات (الجينات) بعد تعرضها الى العوامل البيئية السامة يمكن ان تنتقل عبرالاجيال حتى بعد زوال العوامل نفسها من المحيط البيئي (8).

وبين جزع المنظمات العالمية ونكرانها التام لوجود مثل هذه الكارثة الصحية والبيئية  الطويلة الامد مبدئيا وعجز او تخوف السلطات المحلية عن المواجهة او حتى الاعتراف بوجودها بقيت وسائل الاعلام هي الوسيلة الوحيدة لنقل الصورة وتعريف العالم بما يجرى  لحد يومنا هذا مع الاسف الشديد بينما تبقى الدراسات والبحوث العلمية الرصينة في هذا المجال محصورة في نطاقات ضيقة غير مخيرة وغير معلنة على الاكثر. لقد عجزت البلدان ذات العلاقة عن دراسة مشكلة التلوثات البيئية والظروف المتعلقة بها ومواجهة الاخطار المستقبلية المحدقة بصورة جدية وموضوعية وعجزت حتى عن محاولة تفاديها ووقاية السكان من اخطارها على الاقل قبل فوات الاوان وبهذا تبقي المعلومات المتوفرة عن مدى تسرب التلوث الاشعاعي في اعماق الصحراء والبيئة المحيطة قليلة جدا وكذلك بالنسبة الى حقيقة الاوضاع الصحية للسكان الاهلين في او حوالي المناطق الموبوئة. ونحن من خلال التطرق الى هذا الموضوع نأمل تحفيزالعمل الجاد في هذا المجال مدركين بان على هذا ان يبدأ سريعا ان لم يكن الاوان قد فات بعد.

المصادر

  1. Fahey, Dan, 2008. Environmrntal and Health consequences of Depleted Uranium munitions (in: The International Legal Regulations of The use of Depleted Uranium Weapons-A Cautionary Approach), Asser Press, Den Haag
  2. Al-Muqdadi, K. 2014. Radioactive Pollution in Iraq between truth and disinformation, Part I, Visionmedia SYD, Sweden.ISBN 978-91-86417-69-7.
  3. Arnaot, M. 2013.  White Phosphorus, a Medico-legal Study (under  publication)
  4. Szema et al 2014. JOEM; (March) 56(3):243-251
  5. The Independent Newspaper UK, Patrick Cockburn 24/7/2010. Toxic legacy of US assault on Falluja’worse than Hiroshima’
  6. Baverstock, K. 20/11/2006. Presentation to the Defence committee of the Belgian House of Representatives.
  7. Cobb, Captain James T. 2005. Field Artillary: (March-April), page 26(The Battle for Falluja)  
  8. Seisenberger, S. et al  2012. Phil. Trans. R. Soc. B., 368:20110330   http://dx.doi.org/10.1098/rstb.2011.0330

 

البريد الإلكتروني للكاتب: drmayramzey@yahoo.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x