إن التقرير الذي أصدره المنتدى العربي للبيئة و التنمية (افد) عام 2009 عن تأثير التغيرات المناخية على المنطقة العربية بيّن في فصوله توقعات خطيرة و وضع مأساوي مقلق و ضار بالبيئة و الحياة في بلاد العرب، منها الأضرار المتوقعة على المناطق الزراعية لوادي النيل حيث يتوقع في نهاية القرن الحالي أن يفقد 12 مليون مصري أراضيهم الزراعية، كما أن منطقة الهلال الخصيب بالشام العربية ستفقد خصوبتها و احتمال أن يتلاشى نهر الفرات عند نهاية القرن.
في الوقت الذي أوصى فيه مؤتمر بيروت بضرورة تكريس مزيد من الجهود و الموارد لمراقبة و تقييم تغير المناخ بما في ذلك إنشاء محطات مراقبة و نظم إنذار مبكر و برامج أبحاث في كل القطاعات المتأثرة بتغير المناخ وإنشاء مركز إقليمي لتنسيق الأبحاث و المعارف العلمية، كشف الباحثون عن وضع أكثر مأساوية مرتبط بإشكالية أزمة التقدم الحضاري و التخلف العلمي العربي، ألا وهو شح البيانات والمعلومات العلمية عن الوضع البيئي و الجغرافي عموماً في المنطقة العربية، و هو ما يعيق إجراء الدراسات و الأبحاث عن تأثيرات التغير المناخي في العالم العربي إضافة إلى محدودية المصادر المعتمد عليها في إجراء دراسات التقرير، حيث يتضح أن الباحثين اعتمدوا في إجراء دراساتهم على التقارير الوطنية التي ترفعها البلدان ضمن التزاماتها في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشان تغير المناخ، على الرغم من أن المعلومات التي تحتويها التقارير قديمة، إذ أن معظمها كانت أعدت في العام 1997 أي قبل أكثر من عقد من الزمن، هذا بالإضافة إلى اعتماد الباحثين على دراسات وتقارير كانت قد أُعدت من قِبَل منظمات و هيئات علمية أجنبية و دولية، فالمنطقة العربية هي الأفقر في العالم من حيث وجود محطات لمراقبة المناخ ورصد التأثيرات البيئية، كما أن تقنيات الاستشعار عن بعد بواسطة الأقمار الإصطناعية يكاد أن يكون لا مجال لها في المنطقة العربية و إن كانت متوفرة لدى بعض البلدان العربية أقمار اصطناعية للاستشعار عن بعد أو للأغراض العلمية، إلا أن استخدمها بمهارة فيما يخدم قضايا البيئة أمر بعيد عن التطبيق.
في الصفحات الأولى لتقرير(افد) تتجلى حجم المعاناة و ملامح أزمة الباحثين العرب. ففي الملخص التنفيذي يذكر محررا التقرير الدكتور مصفى طلبة و المهندس نجيب صعب أنه لا يجري تنفيذ برامح شاملة و متكاملة لجعل البلدان العربية مهيأة لمواجهة تحديات تغيير المناخ و تحديداً لا يمكن استشفاف أي جهود متواصلة لجمع البيانات و إجراء البحوث في ما يتعلق بتأثير تغير المناخ على الصحة العامة و البُنى التحتية و التنوع البيولوجي و السياحة و المياه و إنتاج الغذاء و نادراً ما توجد سجلات موثوقة للأنماط المناخية في المنطقة.
كما بين التقرير عجزاً واضحاً في استخدام التكنولوجيا الحديثة في الرصد و التحليل و المراقبة و تزويد الباحثين بالمعلومات مثل إجراء الدراسات بواسطة الاستشعار عن بعد بإستثناء دراسة واحدة متميزة بعنوان دراسة بالاستشعار عن بعد لبعض تأثيرات الاجترار العالمي على المنطقة العربية للدكتورة ايمان غنيم الأستاذة الباحثة في مركز الاستشعار عن بعد التابع لجامعة بوسطن الامريكية. وإذا كانت هذه الدراسة المتميزة قد قدمت سيناريوهات تحليلية لتأثيرات التغير على المنطقة العربية باستخدام الأقمار الإصطناعية فإن ذلك يطرح عدة أسئلة إمامنا منها:
- أين هي مراكز الاستشعار عن بعد التي نسمع عن تأسيسها في كافة البلدان العربية تقريبا ؟
- وأين هي الأقمار الإصطناعية العربية المخصصة للاستشعار عن بعد المعلقة في الفضاء الكوني و التي تجاوزت الخمسة أقمار؟ لماذا لا تستخدم في خدمة الأمة ؟
إذاً كم هو مأساوي ذلك الخطر القادم، و كم هو مؤلم تخلفنا و عدم قدرتنا على مساعدة أنفسنا في تجاوز مشكلاتنا.. معاناة الباحثين عن تأثيرات التغير المناخي على المنطقة العربية. كشف الباحثون المشاركون في إعداد تقرير (افد) أن ثمّة بيانات و معلومات مسبقة يحتاجون لها في دراستهم لمعرفة تأثير التغير المناخي في هذا المحيط البيئي أو ذاك .الدكتور محمد الراعي أستاذ الفيزياء البيئية و عميد معهد الدراسات العليا و البحوث في جامعة الاسكندرية في مصر يشير في فصل البيئة الساحلية من التقرير إلى عدم توفر القدر الكافي من المعلومات عن انخفاض المناطق الساحلية و الإنهيارات الأرضية، و بخاصّة في المناطق التي جرت بها عمليات استخراج النفط زمناً طويلاً، كما تغيب أيضاً أعمال رصد درجة ملوحة كل من المياه الجوفية و التربة.
وحول مدى حاجة الباحث للمعلومات و البيانات المسبقة التي تعيق دراسة تأثيرات التغير المناخي على البيئة الساحلية يقول الدكتور الراعي: (من المعروف عن المناطق العربية أيضاً النقص الواضح في البيانات و المعلومات المتصلة بمختلف نواحي درجات التعرض لعواقب التغيرات المناخية، إذ لا يتوفر عن الحوادث الشديدة الأثر و لا عن التغير في مستوى سطح البحر و لا عن ملوحة المياه الجوفية و الاانهيارات الأرضية في النطاق الساحلي سوى قدر يسير جداً من المعلومات و البيانات، هذا بالإضافة إلى غياب قاعدة البيانات للمؤشرات الوطنية و الإقليمية الدالّة على التغير المناخي و غياب أنظمة الإدارة المتكاملة) .
ونظراً إلى النقص البيّن للمعلومات و الدراسات العربية عن البيئة العربية في مختلف أنظمتها فإن الدكتور الراعي اعتمد في اعداد دراسته على تقرير صادر من البنك الدولي، كما اعتمد غيره من الباحثين إلى مصادر أجنبية أُنجزت مسبقاً عن الوضع البيئي في المنطقة. أيضاً، نجد الباحثين اللذين أعدوا دراسات فصل تأثير التغيرات المناخية على الصحة البشرية يذكرون أنّ ثمّة خلل في البيانات و الأبحاث العربية بشأن التغير المناخي، و إلى الحاجة إلى الأبحاث من أجل تقييم التغييرات المناخية و آثارها على الصحة في العالم العربي، ممايسمح للبلدان تحديد نقاط ضعفها بشكل أفضل و تقييم قدرة كل بلد على التكيف. الدكتور ضياء الدين القوصي رئيس شعبة الموارد المائية و الري في أكاديمية البحث العلمي و التكنولوجيا في مصر يشير صراحة في فصل المياه العذبة من التقرير إلى معاناة الباحثين العرب من قلّة البيانات و الأبحاث و وصفها بأنها من العوائق الكبيرة التي تواجهها الأبحاث في العالم العربي، و هي عدم توفر البيانات، إذ أن القياسات المنتظمة و الرصد المستمر و التقييم الحيادي لحالة المياه في المنطقة إما غائبة أو تتوفر فقط في مساحات معزولة قد تنفصل بفواصل زمنية طويلة تغيب عنها السجلات.وهكذا نجد أيضاً إتفاق معظم الخبراء البيئيين العرب المشاركين في كتابة فصول التقرير على توصياتهم و دعوتهم لزملائم من العلماء العرب إلى تجميع خبراتهم و مواردهم و التعاون في تحديد جدول للأبحاث الإقليمية بشأن تغيرات المناخ و تأثيرها على المنطقة العربية.
نحن أبعد من الإستشعار
يصف محررا تقرير (افد) في الفصل الثالث من التقرير (دراسة بالاستشعار عن بعد لبعض تأثيرات الإحترار العالمي على المنطقة العربية) للدكتورة ايمان غنيم بأنه انجاز خاص للمنتدى العربي للبيئة و التنمية. لكن في اعتقادي أن الكثير من المطلعين على التقرير سيتفقون معي بأنة انجاز متميز من انجازات التقرير، و من انجازات المنتدى عموماً، فالدكتورة إيمان غنيم الأستاذة و الباحثة في مركز الاستشعار عن بعد التابع لجامعة بوسطن الامريكية قدمت إنجازها العلمي المميز الذي تجاوز معاناة الخبراء العرب في دراساتهم التي تضمنتها فصول التقرير و التي أشرنا لها فيما تقدم.
ان الاستشعار عن بعد باعتباره واحد من أهم منجزات عصر التطور التكنولوجي و الثورة المعلوماتية تتيح تطبيقاته إمكانيات متقدمة للحصول على البيانات و المعلومات اللازمة حيث أنه يساعد على عمل الخرائط الخاصة بالمناطق الطبيعية و مراقبة التغييرات البيئية و تأثير الأنشطة البشرية و الصناعية على البيئة.و لأن الاستشعار عن بعد باعتباره أيضاً علم و فن الحصول على المعلومات، فإن ذلك يستدعي ضرورة الاستفادة من تلك المراكز الاستشعارية التي أصبحت منتشرة في البلدان العربية و ليس ذلك فحسب بل إن هناك عدد من الأقمار العربية الإصطناعية المخصصة للإغراض العلمية أو للاستشعار عن بعد قد أطلقت، حيث كانت المملكة المغربية هي السبّاقة لإطلاق قمرها الإصطناعي مارك توبسات أو زرقاء اليمامه المخصص للأغراض العلمية في العام 2001 ، و تلتها الجزائر في إطلاق القمر الإصطناعي السات 1 المخصص للأغراض العلمية. إلا أن الأقمار الإصطناعية المخصصة للإستشعار عن بعد كانت بدايةً من مصر و السعودية حيث أطلقت مصر قمر الإستشعار عن بعد ايجيبت سات 1 في 17 أبريل 2007 و في نفس اليوم أطلقت المملكة العربية السعودية قمر الإستشعار عن بعد سعودي 2 . إضافةً إلى ذلك أطلقت السعودية أيضاً 5 أقمار اصطناعية لأغراض البحث العلمي.
ويعتبر قمر الاستشعار عن بعد الامارات دبي سات 1 و الذي أطلق في 30 يوليو 2009 واحد من الأقمار الإصطناعية العربية التي تعلق عليها الآمال في خدمة البيئة العربية و التكامل العلمي و المعرفي بين العلماء العرب. و بعد هذة اللمحة الخاطفة عن الأقمار العربية الفضائية الغائبة عن نجوم الأرض العربية من العلماء و الباحثين، يبرز لنا أكثر من سؤال، منها:
- ماذا قدمت مراكز الاستشعار عن بعد العربية و أقمارها الاستشعارية المعلقة في الفضاء من خدمة للبيئة العربية عموما، و في المساعدة المثلى لحل أزماتنا البيئة ؟
- وأين مراكز الأبحاث و الدراسات العلمية و البئية من الأقمار و الإستشعار؟
إن المتتبع للتقارير الصادرة عن انجازات مراكز الاستشعار عن بعد العربية و عن مؤسسات البحث العلمي المسؤلة عن مخرجات الأقمار الإصطناعية يجد هناك سرداً لما حققته هذه المؤسسات من إنجازات في إطاره الوطني، لكن هل ثمّة تعاون و تكامل عربي بين أبناء الأمة العربية؟ أم أنّ الشتات العلمي و المعلوماتي هو وجه آخر للشتات السياسي؟
فصول التقرير تجدونها على الرابط هنا
بريد الكاتب الالكتروني: abualihakim@gmail.com