لو قيل إن مهنة ما تستحق لقب "المهنة المستحيلة"، لقلت على الفور إنها مهنة المترجم العلمي، التي ليس لها طريق مرسومة، ولا وصفة جاهزة للنجاح، وتجمع بين العلم والفن والموهبة والممارسة، ويحتاج الخوض في غمارها إلى قدرات خاصة، فإذا كان المتخصصون في الطب والصيدلة والفيزياء وغيرها، يكتب كل منهم في تخصصه، فماذا عن المترجم العلمي المطالَب بترجمة بحوث كل هؤلاء؟ هي مهمة صعبة، ومنشأ صعوبتها طبيعة مهنة الترجمة العلمية، فالمترجم العلمي قد لا يكون متعمقاً في تخصص ما، بل جل اعتماده على ثقافته وقراءاته ومتابعته لما هو جديد، ويحتاج عمله إلى أدوات لا تقف عند حد، بل تتزايد متطلباتها يوماً بعد يوم، وبالإضافة إلى إتقان اللغتين (المصدر والهدف)، هناك مشكلة المصطلحات العلمية، التي كثيراً ما تكون متداخلة، ومشكلة التعبيرات الخاصة (Idioms) التي تضيف التعقيد بوجود معنى حرفي وآخر مجازي.
أيضاً، يصطدم كثير من المترجمين بمشكلة الاختصارات، ومعضلة تعدد الترجمات العربية للمصطلح الواحد، تبعاً لتعدد مدارس الترجمة، واختلاف المعاجم بناء على ذلك وعدم اتفاقها، أضف إليها مشكلة البيئة اللغوية، باختلاف أساليب الكتابية من الناحية الإملائية والدلالية ووصولاً إلى شكل الحروف وعلامات الترقيم. ومن الواضح أن لهذه المهنة في الوقت الحالي وضعاً مختلفاً عما سبق، خصوصاً مع ازدياد التوجه إلى توسيع رقعة الإعلام العلمي في عالمنا العربي، والذي خلق احتياجاً إلى الترجمة العلمية لنقل الأخبار والمدونات المكتوبة بالإنجليزية إلى العربية، باعتبار ذلك جزءاً من عمل الإعلامي العلمي. في هذا الدليل المختصر مجموعة من الملحوظات التي أرجو أن تقدم للمترجم العلمي، وللمهتمين بالترجمة العلمية عمومًا، بضع علامات على الطريق؛ لتجنب مشكلات قد تظهر عند إجراء الترجمة العلمية.
ذخيرة المصطلحات
ربما كانت المصطلحات العلمية من أهم عناصر الترجمة العلمية، وهي مشكلة غير ذات حل قاطع حتى الآن، ولكن ثمة مصادر يمكن من خلالها الحصول على قدر كبير من المصطلحات. فعلى سبيل المثال، يتيح مجمع اللغة العربية بالقاهرة طائفة واسعة من المعاجم المتخصصة للمصطلحات العلمية، مشروحة وموضحة. وتقدم دورية "نيتشر – الطبعة العربية" تعريباً مستمراً للمصطلحات العلمية في التخصصات المختلفة. كما تقدم منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) هذا المعجم لمصطلحات التقنية الحيوية في مجال الأغذية والزراعة. ولهيئة الطاقة الذرية السورية هذا المعجم للمصطلحات العلمية المعربة، رغم بعض الصعوبة في تصفحه؛ إذ يجب تغيير الحرف (A) من شريط العنوان لتصفح بقية حروف المعجم، كما يتوقف الموقع أحياناً عن العمل. وثمة كثير من المواقع، على اختلاف مستوياتها، تسمح بترجمة المصطلحات العلمية بين اللغات المختلفة.
المترادفات ليست مترادفة
إن اللغة العربية ثرية بالألفاظ المتشابهة التي تبدو مترادفة، غير أن الحقيقة أن هناك فروقاً دلالية دقيقة بين هذه المترادفات، ولهذا ليس معنى وضع أكثر من لفظ عربي في مقابل اللفظ الإنجليزي أن استعمال أي منها جائز على السواء، بل المعنى أن هذه الكلمة الإنجليزية تُستعمل في أكثر من سياق، ولكل سياق منها معنى عربي مختلف، وعلى المترجم أن يلحظ هذا الاختلاف ويراعيه بدقة عند اختيار أحد الألفاظ المترادفة. ففي كثير من الأحيان يساوي المترجم في ترجمة Think بين الظن والاعتقاد، مع الفرق الواضح بينهما في درجة اليقين، كما لا يستوي الأسلوب مع النمط في ترجمة Style، وعند ترجمة Insights ثمة فرق عظيم بين الرؤى والبصائر. على الجهة الأخرى، بعض الألفاظ المتشابهة في اللغة الإنجليزية لا ينبغي وضع أحدها مكان الآخر، كما في لفظي Theory وTheorem بمعنى نظرية، ولفظي Geometry وEngineering بمعنى هندسة، ولفظي Phoneme وPhone بمعنى صوت! وهذه القضية من المعضلات التي نشأت عن افتقار الترجمة العلمية إلى مؤسسات تضع معايير ملزِمة، وهو أمر يفوق قدرة الأفراد.
البلاغة الإيجاز
هناك أساليب من السهل الاستبدال، بها لأنها تفتقر إلى الإيجاز، فمثلاً لماذا نقول: تمت دراسة الموضوع، في حين نستطيع القول: دُرس الموضوع؟ وكذلك: تم العثور على، الأوجز والأفصح فيها أن نقول: عُثر على، أيضاً: يعاني من مرض، لسنا مضطرين إلى إقحام حرف الجر بموازاة الأصل الإنجليزي، فالفعل متعدّ بنفسه: يعاني مرضاً. وبعض الأخطاء المتعلقة بذلك تقع عن عدم إدراك للغة العربية ونظامها النحوي، ففي جملة مترجَمة مثل: (توجد تطبيقات للنظرية)، الترجمة العربية الصحيحة لها هي: (للنظرية تطبيقات)؛ لأن الجار والمجرور في هذه الحالة متعلق بمحذوف، تقديره: كائن أو مستقر، فلا حاجة للفظ "توجد".
وهناك مبالغة في استخدام "قام بكذا"، في أحيان كثيرة يمكن استعمال فعل مباشر والاستغناء عن هذا التعبير الممجوج، المستعمل غالباً في غير محله؛ إذ معنى قام بالشيء: أطاقه. ومن المفارقات أن يقع المترجم العلمي في الخلط بين ما يحسن فيه الإيجاز وما يُستحب فيه التوضيح، فمثلا هذه الجملة "تم الاعتماد عليه كمرجع"، يمكن أن تكون أفصح بكلمات أقل وأعني "اعتُمد عليه مرجعاً"، وإذا أريد التوضيح كان الأفضل هذه "اعتُمد عليه بوصفه مرجعاً".
الالتزام بالمصدر سهل وصحيح
إذا كانت الترجمة تعتمد على جمل وعبارات مذكورة في مصدر فيجب الالتزام بعبارة المصدر ما دام لها وجه من الصحة، حتى لو كانت العبارة البديلة صحيحة فيبقى الأصح اعتماد عبارة المصدر، وكثيراً ما يكون ذلك في أسماء المؤسسات المثبتة على مواقعها الرسمية، والعبارات التي ترد في تقارير دولية، من النوع الأول: الجامعة (الأميركية) في بيروت وليس الأمريكية، وكذلك جامعة الملك عبد الله للعلوم و(التقنية) وليس التكنولوجيا، ومن النوع الثاني ما يرد في موقع الأمم المتحدة من عبارات مثل (طارئة صحية عمومية)، وليس (حالة طوارئ صحية عامة).
الذوق يحكم أحياناً
من المهم أن يستعمل المترجم أو المدقق اللغوي الذائقة اللغوية للمفاضلة بين الأساليب عند الترجمة، فمثلاً To Blame قد يعني الملوم أو المسؤول، ولفظ Acceptable قد يعني المقبول أو المسلَّم به، ولفظ Way قد يعني النهج أو الطريق أو الأسلوب، وهناك الإحضار والجلب، وحسب ووفق، وتسهم وتساهم، وتعتبر وتُعَد، ويتطلب ويقتضي. كذلك يُترجَم لفظ FeedbacK إلى: (التغذية الراجعة)، وهو لفظ غير معبر عن المعنى بدقة، إضافة إلى ثقله على السمع، والأوفق منه استعمال: نتائج الاستطلاع، أو الآراء والملحوظات، أو ردود الأفعال، ففي النهاية الترجمة شديدة التطابق ليست ذات نتائج محمودة. وربما كان المرجح الوحيد لاختيار معنى ما هو أسلوب المترجم وذوقه المتفق مع السياق اللغوي محل الترجمة، أو المتفق مع بيئته المحلية، كما في (ديموجرافي) و(ديموغرافي).
الترجمة على اتجاهين
من أغرب الأخطاء في الترجمة العلمية ما يحدث عند ترجمة النصوص المنقولة في الأساس عن اللغة الهدف، وهو إعادة النص المترجم إلى لغته الأصلية، أو ما يُطلق عليه "الترجمة العكسية"، وتُعد السبيل المُثلى للتعامل مع الاقتباسات في مثل هذه الحالة نقل الاقتباس من مصدره دون إعادة ترجمته. فعلى سبيل المثال، هذا الاقتباس لابن الهيثم: "من الواجب على مَن يحقق في كتابات العلماء، إذا كان البحث عن الحقيقة هدفه هو، أن يستنكر جميع ما يقرأه، ويستخدم عقله حتى النخاع لبحث تلك الأفكار من كل جانب"، كانت ترجمته بهذا الشكل: (من واجب الباحث في كتابات العلماء، إذا كان هدفه هو معرفة الحقيقة، أن يجعل من نفسه خصماً لكل ما يقرأه، وإعمال عقله في لب وهوامش مضمونها، ومقارعتها من كافة الجوانب).
وهنا رغم ما يبدو من اجتهاد المترجم في سبيل إخراج جمل فصيحة بليغة، إلا أنه خالف الأمانة العلمية بعدم رجوعه إلى المصدر الأصلي للنص، وبذلك بذل مجهوداً ضائعاً كان ينبغي أن يوجهه إلى استخراج النص من مصدره، حفاظا على الأمانة، وتوفيراً لجهد القارئ. أيضاً هذا المثال من كلام جبران خليل جبران عن العقل والعاطفة:"being more mindful of one over the other could mean losing the benefit of both"، حين تُرجم عن الإنجليزية صار: (مراعاة أحدهما على حساب الآخر يعني فقدان منفعة كليهما)، وهو معنى ناقص، فاته كثير من جمال النص العربي الأصلي، فالترجمة الأفضل هي: (إن العقل والعاطفة هما سكان النفس وشراعها وهي سائرة في بحر هذا العالم. فإذا انكسر سكان النفس أو تمزق شراعها فإنها لا تستطيع أن تتابع سيرها مطمئنة). أيضاً من المشكلات المتصلة بالترجمة العكسية ما قد يحدث عند ترجمة العناوين، فعلى سبيل المثال هذا العنوان لكتاب البيروني "التفهيم لأوائل صناعة التنجيم"، حين تُرجم عن الإنجليزية وعاد إلى العربية أصبح: (مقدمة شاملة لمبادئ علم التنجيم)، وهذا نوع من التضليل لا ينبغي أن يقع المترجم العلمي فيه.
التعبيرات الاصطلاحية Idioms
ومن الأخطاء التي يقع فيها المترجمون عموماً، لكنها تكون أكثر قبحاً في مجال الترجمة العلمية: عدم الدراية بالاستعارة والتعبيرات الاصطلاحية، وينتج عن ذلك أخطاء غريبة أحياناً ومضحكة أحياناً أخرى، ومنشؤها في الغالب الجهل بدروب المجاز في اللغة المصدر، وعدم التنبه إلى آلياته. فعلى سبيل المثال هذه العبارة Relies on a wing and a prayer ترجمها المترجم إلى: (تعتمد على جناح وصلاة)! في حين أنها تعبير اصطلاحي معناه الدقيق: (بين الأمل وفقدان الاستعداد أو عدم الجاهزية)، كذلك عبارة Pours Water On يترجمها بعض المترجمين إلى: (يصب الماء على)، حين رأيت هذه الترجمة تساءلت: كيف يمكن لنموذج جديد أن يصب ماءً على نظرية علمية؟! في حين أنه اصطلاح يعني: يحرج، أو يهز. والحقيقة أنه يمكن بسهولة عدم الوقوع في هذا الفخ من خلال طريقين: إما المعرفة المسبقة بهذه التعبيرات، وإما التبصر حين تُخرج الترجمة الحرفية جملاً غير مألوفة، أو لا يمكن استساغتها وربطها بالسياق الذي وردت فيه.
مزالق الترجمة الحرفية
كما أن الترجمة الحرفية تؤدي إلى عدم الدقة في معظم الأحيان، ويلزمها التصرف في الأسلوب لمعالجة المعنى، فمثلا هذه العبارة Poor Intervention قد تترجم إلى (فقر التدخل)، وهي كلمة غامضة، والأوضح منها أن تكون (المعالجة الهزيلة)، كذلك Spatial navigation قد يُترجم إلى: (الملاحة الفضائية)، وهو مصطلح: التجوال الحيِّزي. ومن الأخطاء التي تؤدي إليها الترجمة الحرفية، ما يحدث أحياناً عند ترجمة أسماء مؤسسات أو ألقاب لمهن ووظائف، كما في (المعهد التحضيري للدراسات العلمية والتقنية) (the Preparatory Institute of Science and Technical Studies) الذي ترجمه المترجم حرفياً إلى: (معهد إعداد الدراسات العلمية والتقنية)! ومن مساوئ الترجمة الحرفية أنها قد تغيِّب عن العمل المترجَم مصطلحًا علميّاً أو كلمة مفتاحية، فيفقد صلته بالأعمال المشابهة؛ نظرًا لعدم وجود لغة مشتركة، وهذا الأمر يدركه العاملون في مجال تهيئة المواقع لمحركات البحث SEO.
دورة عمل.. لا عمل فرد
في الختام وبعد هذه الصعوبات والأخطاء الشائعة، أشير إلى أن الترجمة العلمية أكبر من أن تكون عمل فرد، وحتى لو كان المترجم ضليعاً في اللغتين فطبيعة العمل تجعل الاعتماد عليه وحدَه طريقًا إلى عمل سيئ، ضعيف المستوى. فينبغي أن تخضع الأعمال العلمية المترجمة إلى مرحلتين على الأقل بعد الترجمة، أولاهما مرحلة التحرير العلمي، التي تُوكل في معظم الأحيان إلى متخصصين، أو أفراد مثقفين ذوي عقلية نقدية، ولديهم الخلفية العلمية الكافية، والخبرة بالمصادر العلمية التي تمكنهم من تدقيق المصطلحات والعبارات، والتأكد من المعلومات على نحو تفصيلي، وإعادة صياغة العبارات غير الواضحة أو التي تجلب اللبس، وغير ذلك مما يرفع القيمة العلمية للعمل.
والمرحلة الأخرى التحرير اللغوي، بالتدقيق الإملائي، وتدقيق الصياغات الصرفية، والعلامات الإعرابية، والعمل على وضوح الأسلوب، وإعمال علامات الترقيم لتساعد القارئ على قراءة سليمة منضبطة؛ بغية إكمال سلامة اللغة المنقول إليها العمل وضبط جودته اللغوية.
- المقال بصيغة PDF للقراءة والتحميل أعلى الصفحة.
بريد الكاتب الالكتروني: shair2007@gmail.com