تشكل مشكلة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية تهديداً حقيقياً لصحة الإنسان وللتنمية والأمن. وهي آخذة في الازدياد إلى مستوياتٍ خطرة في جميع أنحاء العالم، حيث يُقدّر عدد حالات الوفاة المتعلقة بهذه المشكلة بأكثر من 700 ألف حالة وفاة سنوياً. وفي تقرير بتكليف من الحكومة البريطانية تم التحذير مِن إمكانية وفاة عشرة ملايين شخص سنوياً على مستوى العالم بحلول عام 2050، بسبب مشكلة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. وبتكلفة مالية تصل إلى 100 تريليون دولار أمريكي.
إن استخدام المضادات الحيوية بشكل متكرر، وعلى مدى فترات طويلة من الزمن يشكل ضغطا انتقائيا على البكتيريا، ويسبب انتشار البكتيريا المقاومة للمضادات. فعادةً عندما يتم استخدام المضادات الحيوية لعلاج عدوى بكتيرية ما، فإنه يتم قتل معظم البكتيريا، ومع ذلك تبقى بعض الأنواع التي تمتاز بوجود ميزة لديها تمكنها من مقاومة المضاد، وبالتالي النجاة من المضادات الحيوية. فتتضاعف هذه الأنواع وتتكاثر وتقوم بتمرير ميزة النجاة لديها لأنواع أخرى من البكتيريا، مسببة بذلك ظهور العديد من الأنواع المقاومة للمضادات الحيوية. وهناك قائمة متزايدة من الإصابات التي أصبح علاجُها أكثر صعوبة بسبب فقدان المضادات الحيوية لفعاليتها، ومن بينها: الالتهاب الرئوي، السل، تسمم الدم، والسيلان. وإذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة، فإننا حتما نتجه نحو عصر ما بعد المضادات الحيوية، حيث يمكن لأبسط الالتهابات البكتيرية أن تودي بحياة الناس.
كيف تصبح البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية؟
تكون بعض أنواع البكتيريا بشكل طبيعي مقاومةً للمضادات الحيوية، ويمكن للبكتيريا أن تصبح مقاومة للمضادات الحيوية بطريقتين: حدوث الطفرات. الوراثية واكتساب المقاومة من أنواع أخرى من البكتيريا. يمكن للبكتيريا أن تكتسب جينات المقاومة من أنواع أخرى من البكتيريا خلال عملية الاقتران، حيث يتم نقل المادة الوراثية بما فيها الجينات الـمُشفّرة لمقاومة المضادات الحيوية. وتُعد الفيروسات وسيلةً أخرى لنقل جينات المقاومة، حيث يتم تحميل سِمة المقاومة في منطقة الرأس للفيروس ثم يقوم بحقنها في البكتيريا التي يهاجمها لاحقا. كما ويمكن لبعض أنواع البكتيريا اكتساب الحمض النووي DNA الحـُر من البيئة المحيطة. ومن الجدير بالذكر أنه ومع مرور الوقت، فإن البكتيريا التي اكتسبت صفة المقاومة سواء عن طريق الطفرات التلقائية أو عن طريق التبادل الجيني بين أنواع البكتيريا المختلفة، تقوم بتجميع أكتر مِن صفة للمقاومة، وتصبح في النهاية مقاومةً لأنواع مختلفة من المضادات الحيوية، التي تندرج تحت أكثر من عائلة.
كيف تنتشر مقاومة المضادات الحيوية؟
- وِراثـيــاً: يمكن أن تنتشر مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية عبر انقسام البكتيرياً، حيث يتم توريث جينات المقاومة للأجيال الجديدة، الذي يُعرف بالتوريث العمودي. أو أفقيا عندما تقوم البكتيريا المقاومة بمشاركة أجزاء من المادة الوراثية مع أنواع أخرى من البكتيريا الحساسة.
- بَـيْـئِـيّـاً: الانتقال بين الأشخاص، فالبكتيريا موجودة في كل مكان، ونحن نتعرض لها في مختلف الأوقات. والإنتقال بين الاشخاص قد يحدث عن طريق الاتصال المباشر، أو بصورة غير مباشرة عن طريق السعال أو الأسطح الملوثة بجراثيم الأشخاص الآخرين.
- الميكروبات المشتركة بين الإنسان و الحيوان: يضطر الكثير من الأشخاص للتعامل مع الحيوانات بصورة قريبة، سواء من خلال الاحتفاظ بها باعتبارِها حيوانات أليفة، أو من خلال تربيتها لِاعتمادِها مصدرا للغذاء. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 60% من الأمراض المعدية في البشر تكون ناجمة عن مُسببات الأمراض المشتركة مع الحيوانات البرية أو الداجنة. إضافة إلى ذلك، فإن مُعظم الأمراض المعدية التي تم تحديدها في السنوات الـ 70 الماضية هي حيوانية المصدر. وظاهرة مقاومة المضادات الحيوية، ظاهرة شائعة في الثروة الحيوانية وهناك العديد من الأمثلة على الكيفية التي يصبح فيها المزارعون وأُسَرَهُم، حاملين لبكتيريا مقاومة للمضادات مشابهة لتلك التي تحملها حيواناتهم.
- الانتقال عبر الغذاء: تُستخدَم المضادات الحيوية بأعدادٍ كبيرة في مزارع الحيوانات، إما لمنع وعلاج الالتهابات، أو لتعزيز النمو، وبالتالي أصبح عددٌ كبير من حيوانات المزارع مستعمرة للبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، ويمكن لهذه البكتيريا أن تنتقل للمنتج عند الذبح أو في مرحلة معالجة اللحوم. وقد بينتْ بعض الدراسات التشابه بين الجينات المقاومة للمضادات الحيوية في البكتيريا الموجودة في اللحوم، وتلك التي وُجدتْ في مسببات الأمراض البشرية، وفي العام الماضي، أعلنت إدارة الغذاء والدواء وجودَ تلوثٍ بالبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية (في 81 %من لحم الحبش، 69 % من شرائح لحم الخنزير، 55 % من اللحم المفروم، و39 % من لحم الدجاج) لعينات في محلات البقالة. ويجب التنويه إلى أن الطبخ السليم للمواد الغذائية، من شأنِه أن يُقلل من انتشار العدوى، وكذلك البكتيريا المقاومة.
- الانتقال عبر الماء: يمكن للبكتيريا أن تنتقل عن طريق مياه الشرب أو المياه المستخدمة في الرَّي وغسل أواني الطبخ أو تلك المستخدمة لأغراض صحية. وقد تم العثور على البكتيريا المقاومة في العديد من مصادر المياه مثل الآبار الصالحة للشرب، الأنهار والنفايات السائلة من محطات معالجة مياه الصرف الصحي. ويمكن للعديد من الأمراض البكتيرية أن تنتشر عن طريق المياه الملوثة، بما في ذلك حمى التيفوئيد والكوليرا. هناك طرق متعددة يمكن للبكتيريا أن تنتهي من خلالها في المياه، لعل من أهمها صرف المخلفات البشرية ومخلفات الحيوانات فيها.
- مرافق الرعاية الصحية: تُعد مرافق الرعاية الصحية مرتعاً لأنواع متعددة من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، حيث اكتظاظ المكان بالمرضى والإفراط في استخدام المضادات الحيوية، إلى جانب الممارسات الصحية الخاطئة التي تساهم بصورة أو بأخرى في نشر البكتيريا المقاومة، سواء عن طريق الأيدي أو ملابس الأطباء والممرضين وغيرهم من العاملين في مجال الرعاية الصحية، وكذلك المرضى والزوار. كما وتلعب غُرَفُ العزل القليلة والأدوات التي لم يتم تنظيفها بصورة جيدة دوراً هاماً في نقل البكتيريا المقاومة. كما يمكن للبكتيريا المقاومة أن تنشر عن طريق التجارة والسفر، وهذا يفسر وجود بكتيريا مقاومة لمضادات حيوية لم تُستخدم من قبل في بعض البلدان.
سِلبية مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية
تعتبر ظاهرة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية ظاهرة طبيعية، وتستخدمها البكتيريا في المنافسة للحصول على الغذاء والمأوى، ولكن ومنذ اكتشاف واستخدام المضادات الحيوية التي تُعرف لقبا باسم "الدواء المعجزة" تم رصد العديد من السلوكات التي أدّت إلى تسارع وتيرة الظاهرة وتفاقم الأزمة وتسارع انتشارها، ومن أهمها:
في الطب البشري
- الإفراط في استخدام المضادات الحيوية، واستخدامها بشكل خاطئ لعلاج العدوى الفيروسية.
- الإفراط في توصيف المضادات الحيوية، وإصرار المريض على طلبِها من الصيدليات.
- عدم إكمال الجرعة الموصوفة.
- استخدام بقايا الجرعة الموصوفة لأشخاص آخرين.
في التطبيقات غير البشرية
- الإفراط في استخدام المضادات الحيوية في الثروة الحيوانية ومزارع الأسماك، فوفقاً لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، 80% مِن جميع المضادات الحيوية التي تباع في الولايات المتحدة تعطى للحيوانات بغرض تعزيز النمو والوقاية من الأمراض.
- انخفاض أو انعدام النظافة وسوء الصرف الصحي للمخلفات الصلبة والسائلة لنشاطات الإنسان خاصة الصناعية.
- تدني مستويات مكافحة العدوى في المستشفيات والعيادات.
- عدم وجود مضادات حيوية جديدة يجري تطويرها.
ما هي العواقب المحتملة لمقاومة المضادات الحيوية؟
العديد من خيارات العلاج المتاحة للعدوى البكتيرية الشائعة فقدت فعاليتها بالفعل، ولم تعد مجدية بتاتا. ونتيجة لذلك، هناك حالات يستعصي علاجُها من قِـبل أيٍّ من المضادات الحيوية المتاحة. هذه المقاومة قد تؤخر وتعيق العلاج، مما يؤدي إلى مضاعفات خطيرة أو مُميتة في بعض الأحيان. وعلاوة على ذلك، قد يحتاج المريض إلى مزيد من الرعاية، فضلا عن استخدام المضادات الحيوية البديلة والأكثر تكلفة، والتي قد يكون لها آثار جانبية أكثر خطورة، أو قد يحتاج المريض لأساليب علاجية أكثر صعوبة على المريض وأعلى كلفة، مما يزيد من مدة البقاء في المستشفى. وقد قدمتْ منظمة الصحة العالمية مؤخرا تقريرا توضح فيه أن مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية الشائعة قد بلغت مستوياتٍ خطرة في عدة مناطق مِن العالم. في أوروبا على سبيل المثال، هناك زيادة في مقاومة المضادات الحيوية من البكتيريا الشائعة مثل: المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين MRSA، الكلبسيلة الرئوية Klebsiella pneuominiae والزائفة الزنجاريةPseudomonas aeruginosa . هناك أمر خطير يجب أن نلفت الأنظار إليه: وهو دور المضادات الحيوية في نجاح العمليات الجراحية التي أصبح يتهددها خطر زيادة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية.
مقاومة المضادات الحيوية وضعت إنجازات الطب الحديثة في خطر، فعدم وجود مضادات حيوية فعالة للعلاج من العدوى تؤثر على حالات نقل الأعضاء، والعلاج الكيميائي، بالإضافة للعمليات مثل: الولادة القيصرية حيث أصبحت أشد خطورة. لذا نحتاج وبشكل عاجل إلى إبطاء تطور وانتشار المقاومة بحيث يمكن للمضادات الحيوية لدينا أن تواصل العمل لأطول فترة ممكنة. ونحن أيضا بحاجة ماسة إلى تكريس المزيد من الموارد للبحوث والسعي نحو تطوير مضادات حيوية جديدة.
ماذا يمكنك أن تفعل للحد من انتشار ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية؟
1- المواطن للبقاء بصحة جيدة
- يجب الحرص على غسل اليدين باستمرار وتذكير الآخرين بذلك.
- التأكد من الحصول على اللقاحات الضرورية.
- إعداد وطهي الطعام بشكل جيد وصحيح (الحرص على فصل اللحوم النيئة عن الخضار، غسل اليدين قبل وأثناء وبعد التعامل مع الطعام، طهي اللحوم على درجات الحرارة الموصى بها واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المياه التي تستخدمها نظيفة).
2- رفع مستوى الوعي
- تعلم واعرف المزيد عن البكتيريا ومقاومة المضادات الحيوية.
- تثقيف الآخرين حول موضوع البكتيريا ومقاومتها للمضادات الحيوية، وإطلاعهم على الإجراءات التي يمكن اتخاذها للحد من المشكلة.
- المشاركة في الأنشطة التوعوية التي تهدف لرفع مستوى الوعي المجتمعي.
3- استخدام المضادات الحيوية بحكمة
- رؤية طبيب مختص لأغراض التشخيص، وتجنب طلب المضادات الحيوية، وعوضا عن ذلك السؤال عن بديل لتخفيف الأعراض.
- تجنب التطبيب الذاتي واستخدام بقايا جرعات سابقة.
- اتباع التوجيهات العلاجية في حال تم وصف مضاد حيوي للمريض.
4- العاملين في مجال الرعاية الصحية
- تثقيف الناس الذين نعمل معهم حول موضوع مقاومة المضادات الحيوية وأهمية الإجراءات الصحية السليمة.
- تعزيز الاستخدام الرشيد للمضادات الحيوية.
- العمل على اتخاذ التدابير القياسية للوقاية من العدوى ومكافحتها في منشأة الرعاية الصحية الخاصة بك، من خلال التأكد من اتباع اجراءات السلامة والتخلص الآمن من النفايات الطبية.
- تنظيم حملات إعلامية حول الوقاية من العدوى، أو حملاتٍ لتحفيز المزيد من الناس على تطعيم أنفسهم وأبنائهم.
- وضع استراتيجيات لمراقبة السلوكيات التي من شأنها أن تساهم في البكتيريا المقاومة المضادات الحيوية في منشأتِك الصحية، والحرص على مشاركة النتائج مع أصحاب القرار.
5- المزارعين العاملين في الإنتاج الحيواني والاستزراع السمكية
- التأكد مِن أن المضادات الحيوية التي تُعطى للحيوانات، هي فقط لمكافحة الأمراض المعدية وتحت إشراف الطبيب البيطري وأصحاب الاختصاص.
- الحرص على توفير النظافة والظروف غير المكتظة في المزارع، إضافة إلى استخدام اللقاحات، وهذا بدوره يقلل من الحاجة لاستخدام المضادات الحيوية.
- المزارع النموذجية تشكل وسيلة جيدة جدا لتربية الحيوانات بشكل صحي يقلل من الاعتماد على الأدوية الوقائية.
6- حكومات
- وضع خطط عمل قومية ووطنية للتصدي لمشكلة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية.
- إدخال تحسينات على استراتيجيات الرقابة للحد من انتشار العدوى المقاومة للمضادات.
- سن وإقرار وتطبيق القوانين المتعلقة بتنظيم استخدام وصرف المضادات الحيوية على المستوى البشري وقطاع الإنتاج الحيواني
- تنظيم الاستخدام الملائم للمضادات الحيوية، والعمل على نشر الوعي حول مخاطر الإفراط في استخدامها.
- العمل على ملء الفجوة المعرفية عن طريق التمويل المباشر للأبحاث المتعلقة بمقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية.
استجابة منظمة الصحة العالمية
معالجة مشكلة مقاومة المضادات الحيوية هي مِن المسؤوليات الأساسية لمنظمة الصحة العالمية، فالخطة العالمية للقضاء على هذه الظاهرة، تَمَّ إقرارُها من قبل المنظمة في مايو 2015م. والهدف من هذه الخطة هو ضمان استمرار العلاج الفعال والآمن للأمراض. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعمل بعض الدول دون أخرى في هذا المجال، ولابد من تضافر الجهود العالمية للحد من هذه الظاهرة.
وتضم الخطة العالمية خمسة أهداف استراتيجية وهي:
- زيادة الوعي والفهم لمشكلة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية.
- تعزيز البحث العلمي حول هذه القضية.
- تقليل نسب الإصابة وانتشار العدوى.
- تقليل نسبة استخدام المضادات الحيوية، واستخدامُها بشكل صحيح وأمثل.
- ضمان الاستثمار المستدام في مكافحة هذه المشكلة
بريد الكاتب الالكتروني: elmanama_144@yahoo.com