إنَّ وجودَ مُجتمعٍ علميٍّ قويّ مُترابط وذو تقاليد علمية يضمن سلامة العلاقة بين العلماء والباحثين والأكاديميين، وحكوماتهم. ويعطيهم الحقَّ في القوْل الفصل في تقرير أولويات البحث العلمي ومتطلَّبات مجتمع المعرفة. كما أن وجودَ مجتمعٍ علميّ رفيعِ المستوى يضمن أبحاثا وابتكارات وإنتاجات علمية ذات جودةٍ عالية، وهو ما يُعطي الثقة لأصحاب رؤوس الأموال للاستثمار في اقتصاد المعرفة، حيث يكون مردودُوها الاقتصادي كبير ونفعُها التنمويًّ عميمٌ على المجتمع وعلى الدولة وعلى الإنسانية بشكل عام.
كنتيجة حتمية لضُعف المجتمع العلمي العربي، فإن البحث العلمي في الوطن العربي ضعيفٌ كماً ونوْعاً. ويتجلى هذا الضُّعف بشكل جليٍّ في دوريات البحث العلمي العربية التي لا ترقى في مُعظمِها إلى مستوى الدوريات العلمية الرائدة عالميا، بل ولا ترقى الكثير منها للحدود الدنيا المتعارف عليها أكاديميا. تسعى الدول العربية لبناء ما يسمى مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة، ولكن ليست كل الجهود المبذولة في هذا الإطار تتسم بالحكمة والنظرة العميقة لهذه المفاهيم، فمما جاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2003م: ".. وقد عمَّقَ من هذه المشكلة الاعتقاد الخاطئ بإمكانية بناءِ مُجتمع المعرفة من خلال استيراد نتائج العِلم، دون الاستثمار في إنتاج المعرفة مَحليا، والرُّكون في تكوين الكوادر العلمية على التعاون مع الجامعات ومراكز البحث في البلدان المتقدمة معرفيا، دون خَلْقِ التقاليد العلمية المؤدية لاكتساب المعرفة عربيا".
البروفسور "رُشدي راشد"، مدير المركز الوطني للبحوث العلمية بباريس (سابقا)، يقول في مقال له بعنوان: "الوطن العربي وتوطين العلم"، نُشر في مجلة المستقبل العربي، العدد 354 لشهر آب/أغسطس 2008م: " يَتِم تمَلُّكُ العِلم بفضل التكوين والتطوير للتقاليد الوطنية في البحث، وخاصة البحث الأساسي. وهذا لا يتطلبُ فقط تخصيصَ وصَرفَ الأموال اللازمة لإنشاء المؤسَّسات ولتكوين الاختصاصيِّين، بل أيضاً دَعْمَ التحولات العلميّة في المُجتَمَع، وهذا يعني وجوبَ وضعِ كلِّ الإمكانيات لكيْ يُصبحَ العِلمُ جُزءاً أساسياً من الثقافة"، ويُضيف قائلا: " لا يُمكِنُ القيامُ بذلك دون تعريبٍ مَنْهَجيٍّ جَيدٍ للتعليم العلميّ". من خلال ما سبق، نستنتج أنه لإقامة مجتمع علمي ومعرفيّ حقيقي، لابد لنا أولا وقبل كل شيء التأسيسَ له عن طريق إشاعة ثقافة العِلم والمعرفة في هذا المجتمع، وذلك من خلال استثمار مجموعِ مقوماتِه الثقافية والعلمية والأدبية والفنية، عن طريق توظيف واعتماد أعلامِه ومنتجاتِهم في مختلَف الحقول. بتعبير أوضح، لا بد أن تكون البداية من الداخل وليس العكس (الاستيراد / والاستقطاب). المجتمع العلمي كما يراه الدكتور "أنطوان زحلان" هو: ” شبكة من العلماء الذين يعيشون، ويعملون في مجتمع معين، وتعني الشبكة ضمنا، الترابط والتواصل بين أعضائها“
الشبكة العِلمية هي لبنةُ بِناءِ المجتمع العلمي
كلُّ شبكةٍ هي مجتمعٌ علميٌّ قائم بذاتِه له مباحِثُه وتخصصاتُه. وجمْعُ أعضاءِ هذا المجتمع تحت مظلة واحدة، هو ما نقصد به "الشبكة" أي البنية أو النسق الذي يُنظم العلاقة بين عناصر هذه الشبكة. تتطور "الشبكة/البنية" لتكونَ كلية غيرَ منظورةٍ Invisible college. ومن طبيعة الكلية غيرِ منظورة، أنها تحيل على مجموعةٍ من العلماء أو الباحثين أو الأكاديميين الذين يَشتركون في اهتمامات بحثية مماثِلة أو متشابهة أو مُتقاربة، قد تندرج ضمن حقل علمي واحد، أو من مباحث أخرى مترابطة، ويَنشرون أبحاثا ودراسات حول تخصصاتِهم إما بشكل جماعيّ أو بشكل مجموعات وفُرُق بحث متجانِسة. إنهم يتواصلون بشكل رسمي وغير رسمي مع بعضِهِم لتحقيق أهدافٍ عامة في هذا التخصص. على الرغم من أنهم ينتمون إلى مؤسسات بحثية متباعدة جغرافياً. هذه المجتمعات العلمية المتخصصة، تتشابك وتتسع وتنمو لتصبح شبكة كبيرة وجامعة هي ما نصطلح عليه بالمجتمع العلمي. خاصيتُه الأساسية هي التواصل والترابط والتفاعُل والإنتاج والتطوير.
الشّبكات العِلمية المُتخصِّصة.. أهميتُها والدَّور المطلوبُ منها.
هناك فوائدُ كثيرة جداً يجنيها الباحث أو العالِم عندما يكون عضوا في الشبكة العلمية، وكلما كان قُطر هذه الشبكة أكبر زادتْ منافع ومكاسب أعضائها. ومن جملة هذه الفوائد:
- معرفة وإلمام الباحث بما يجري حولَه من مستجدات علمية ومعرفية.
- تطوير الباحث لمؤهلاتِه ومدارِكه العلمية في مجال تخصصه.
- سهولة وصول الباحث إلى حلول عملية للمشكلات التي تواجِهه في مشاريعِه البحثية عن طريق استفادته من شبكة من العلماء والباحثين والخبراء في نفس تخصصِه.
- انفتاح الباحث على معارفَ وعلومٍ جديدة.
- الاتصال المباشر والدائم مع المستجدات العلمية الأكاديمية كالمنح والوظائف والمحاضرات والندوات والدورات التدريبية.
- مضاعفة حظوظ النشر في الدوريات المحكمة.
- الاستفادة من الدعم المادي والمعنوي، ومضاعفة فرص إيجاد تمويلٍ للمشاريع والأبحاث.
- مشاركة الباحثين الآخرين الانتاج البحثي، والحصول على تقييمات لمستواه العلمي.
ويعتمد تكوين هذه الشبكة "شبكة الباحثين" على تفعيل وسائل الاتصال والتواصل بين الباحثين والمهتمين، عبر القنوات المتاحة من قبيل دوريات النشر، المنصات المفتوحة، مواقع التواصل الاجتماعي، مواقع الجامعات وروابط المقالات التي منها يتم الاقتباس. كل هذه الوسائل تنشط وتسرع وتطور الحراك والنشاط العلمي داخل هذه الشبكة وبالتالي داخل المجتمع نفسِه.
الشَّبكات والدَّوْريات العِلمية
تلعب دوريات البحث العِلمي دوراً أساسيا في هذه العمليات. الوظيفة الأهم للدورية المتخصصة هي تقييم ومُراجعة وتحرير ونشر أوراق البحث. تحصل الورقة على المشروعية عندما يُشير إليها علماء آخرون عن طريق الاقتباس أو الإحالة، كما تكتسب بعض أوراق البحث مشروعيتَها العلمية عندما تتعدى نسبة قراءتها النسب العادية.
يضطلع المجتمع العلمي بمهمة فرز وتصنيف وانتقاء الأبحاث الممتازة والجيدة، كما يعمل على تشجيع ودعم المحاولات الجادة، والأهم من هذا ينبغي على المجتمع العلمي توفير الأدوات والآليات الضرورية والمناسبة لتطوير مستوى الباحثين والرفع من كفاءاتِهم العلمية والمعرفية وتمكينِهم من أدوات البحث العلمي الجاد والرصين. كما تتحدد مهمة المجتمع العلمي في تحديد ضوابط عمليات التحكيم والمراجعة والتدقيق، وإليه يؤول قرار القبول أو الرفض للأوراق العلمية التي تنتج في نطاق شبكاته. إذْ تُكسب هذه الضوابط شرعية أكاديمية للباحث وقيمةً عِلمية لبحوثه. ومن أجل مجتمع علمي متخصص، عربي، قوي ورفيع المستوى، يسعى لتملّك العِلم ويمتلك أدواتِ إنتاجِه ونشرِه، لابد من السعي لتكوين مثل هذه الشبكات العِلمية المتخصصة، وكُليات غير منظورة في جميع أرجاء وطننا العربي الكبير.
وهذا ما تسعى إليه حقيقةً مُنظمةُ المجتمع العلمي العربي، وذلك بواسطة أفراد ومؤسسات هذا المجتمع، وتدعوا المنظمةُ الباحثين إلى الاهتمام بهذا الجانب، والسعي لِخلق هذه الروابط والشَّبكات فيما بين الباحثين والعلماء. وتفتح بابا للحوار البناء والاقتراحات الجادة والهادفة، التي يمكن أن تكون أرضية صالحةً ومناسبةً لتطوير المعارف والعلوم في المجتمع العربي. تمهيدا لتحقيق الهدف الأكبر، ألاَ وهو إقامة مجتمع علمي عربي حقيقي قادرٍ على إقامة اقتصاد المعرفة وتحقيقِ تنمية عربية شاملة ومُستدامة.
والله ولي التوفيق
البريد الإلكتروني للكاتب: mmr@arsco.org