للبحث الدقيق يمكنك استخدام البحث المتقدم أدناه

يعتمد البحث السريع على الكلمات الموجودة داخل عنوان المادة فقط، أما البحث المتقدم فيكون في كافة الحقول المذكورة أعلاه

التعبير عن الانتماء والكتابة بالذرات

  • د/ أحمد بن حامد الغامدي

    جامعة الملك سعود - المملكة العربية السعودية

  • ما تقييمك؟

    • ( 5 / 5 )

  • الوقت

    10:14 ص

  • تاريخ النشر

    24 سبتمبر 2023

الكلمات المفتاحية :

الإحساس بالانتماء هو شعورٌ عاطفي متأصل في السلوك البشري الاجتماعي، ينعكس أحيانًا في مظاهر متعددة، من ضمنها المبالغة لدى بعض الأفراد "للتعبير عن الانتماء"، وتأكيد الولاء لمجموعة أو قبيلة أو دولة أو دين. هذا الإبداء المبالغ فيه للتعبير عن الانتماء، قد يتمثل في قيام شخصٍ مثل الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" قبل سنوات عديدة من توليه منصب الرئاسة، بنَصب أكبر سارية للعلم الأمريكي الضخم في منتجعه الرياضي في جنوب مدينة "لوس أنجلس".

منظمة المجتمع العلمي العربي


وفي عام 1914 قامت مجموعة من طلبة الهندسة بجامعة أريزونا بالاحتفال والاحتفاء بجامعتهم، وكذلك بالتعبير عن فخرهم بولاية أريزونا، بكتابة وتشكّل أكبر حرف "A" في العالم، وذلك على سفح جبل يطلّ على مدينة توسان الصحراوية. التعبير عن الانتماء لجامعة وولاية أريزونا، أدى إلى انتشار ظاهرة كتابة حرف "A" في حوالي 60 جبلًا وهضبة في تلك الولاية، أشهرها على الإطلاق ذلك الجبل المسمى "A mountain" والذي يحتوي حرف "A"الأبيض الهائل، والذي يبلغ طوله حوالي 50 مترًا.

وبالانتقال من التعبير عن الانتماء بكتابة وتشكيل أكبر حرف هجائي على سطح الأرض من قبَل منسوبي جامعة أريزونا في جنوب أمريكا، إلى كتابة وتشكيل أصغر حرف هجائي في الوجود وهو من تحضير أحد منسوبي جامعة إلينوي. يقودنا هذا للحديث عن العالم العربي الكبير الذي نفتخر به وهو أستاذ علم الفيزياء بجامعة إلينوي وأحد رواد علم تقنية النانو الدكتور "منير نايفة" والذي استطاع قبل حوالي ثلاثين سنة من "تحريك الذرات" لكي يكتب بها الحرف الإنجليزي "P". لقد تمكّن نايفة من توظيف التقنية العلمية المتقدمة المسماة "المجهر المسحي النفقي" (Scanning Tunneling Microscope)، ليتمكن من تحريك الذرات المفردة ذرةً ذرة،وذلك كي يرسم شكل قلب صغيرٍ جدا في وسطه حرف "P". طبعًا ذلك الشكل البالغ الصغر لا يمكن أن يُرى إلا بالمجهر الإلكتروني، ولهذا كان لذلك الحدث العلمي البارز صداه الذي وصل لصحيفة "الواشنطن بوست" وللمجلة العلمية الثقافية والإخبارية "نيو ساينتست". بقي أن نقول إنّ سبب اختيار الدكتور منير نايفة لكتابة حرف "P" بواسطة الذرات هو كنوع من "التعبير عن الانتماء" لمجال علم الفيزياء (Physics)، حيث أنّ أول حرف في لفظة الفيزياء باللغة الإنجليزية هو حرف "P". ومع ذلك، ينبغي التنبيه إلى أن الدكتور الفلسطيني "منير نايفة" يحلو له أحيانًا عندما يُسأل عن القصد بتشكّل ذلك القلب الذي في داخله حرف "P" فإنه يرد أنه يقصد أن بلده الأصلي فلسطين ما زال يحتل الموقع الأهم في قلبه، ولهذا فحرف "P" هو الحرف الأول من لفظة فلسطين باللغة الإنجليزية ""Palestine.

تلك القصة الطريفة للدكتور نايفة في التعبير عن الانتماء للوطن والاحتمالية المزدوجة لوجود معاني أخرى بديلة، تذكّرنا بقصة عالم الكيمياء الفرنسي "بول إميل ليكوك "الذي اكتشف في عام 1875 عنصر الجاليوم (Ga)، والذي زعم في البداية أنه أطلق عليه هذه التسمية كدلالة وتعبير عن الانتماء لبلده فرنسا. صحيحٌ أنّ الاسم القديم لفرنسا هو أرض الغال (Gaul) ومنه يشتَق اسم عنصر الجاليوم، ولكن البعض يقول إنّ العالم الكيميائي ليكوك، كان في الواقع يريد أن يعبر عن الانتماء والاحتفاء لاسم عائلته ليكوك (Le coq). وذلك لأن اسم عائلته باللغة الفرنسية يعني (الديك) وكلمة الديك باللغة اللاتينية هي "gallus". وبهذا، فإنّ اسم عنصر الجاليوم قد يكون تقديرًا لبلد فرنسا (أرض الديكة)، أو قد يكون تعبيرًا للانتماء لأسرة العالم الكيمائي "آل ليكوك".

أحرف من ذرات تحت المجهر

العلم الحديث بإمكانه أن يعمل المعجزات. ومن ذلك، أنه بصورةٍ ما، يستطيع أن يحوّل "الجدل البيزنطي" غير المفيد إلى صورةٍ أكثر جدية. فمثلًا نجد أن بعض العلماء حوّلوا مهزلة "الجدل البيزنطي" في العصور الوسطى عن سؤال: "كم من الملائكة يمكن أن يقف على رأس دبوس" إلى سؤال "كم من الكتب يمكن أن نكتبها على رأس دبوس". في عام 1988، تمكّن مجموعة من العلماء في جامعة ليفربول البريطانية من استخدام تقنيةٍ خاصة من المجهر الإلكتروني، لتركيز حزمة من الإلكترونات عالية الطاقة، لحفر وكتابة الكلمات على قطعةٍ صغيرة جدًا من "أوكسيد الألومنيوم". ولهذا من الناحية النظرية يمكن كتابة كامل الأربعة والعشرين مجلدًا للموسوعة البريطانية على رأس دبوس. في الواقع، العلماء الإنجليز اكتفوا بكتابة صفحة واحدة من الموسوعة البريطانية فقط لكي يثبتوا كفاءة تقنيتهم العلمية المتطورة، وكذلك لكي يحاولوا تحقيق التحدي الذي أطلقه عالم الفيزياء الأمريكي "ريتشارد فاينمان" والذي أعلن في عام 1959 عن "جائزة رمزية" بمقدار ألف دولار لمن يستطيع أن "يكتب الموسوعة البريطانية على رأس دبوس". ذلك التحدي ورد في نهاية المحاضرة العلمية الشهيرة التي ألقاها فاينمان والتي طَرحت لأول مرة، فكرة إمكانية ترتيب وتحريك الذرات واحدة واحدة لكي تشكّل أجسامًا، أو آلاتٍ نانوية، أو حتى مجرد كتابة أحرف وكلمات. ولهذا، ظهر التصريح الشهير للدكتور فاينمان أنّ "هناك مساحة كبيرة في القاع .. دعوة لدخول مجال جديد للفيزياء".

إنّ المجال الجديد للفيزياء الذي تنبأ به ريتشارد فاينمان هو ما نطلق عليه اليوم علم "تقنية النانو" ولتحقيق عملية التحريك والمناورة والتلاعب (manipulation) بالذرات حتى ترسم الأشكال أو الأجسام التي نرغب بها، يتم بعدّة تقنيات عليمة على درجةٍ عالية من التطور من أهمها جهاز المجهر المسحي النفقي (STM) الذي ذكرنا أن الدكتور منير نايفة استخدمه لكتابة ذلك الحرف الإنجليزي "P" حمال الأوجه والمعاني.

لقد تم لأول مرة تصنيع المجهر المسحي النفقي في مختبرات شركة "آي بي إم" الأمريكية، وذلك في معاملها البحثية في مدينة زيورخ السويسرية، من قبل عالم الفيزياء الألماني "جيرد بينيج" وعالم الفيزياء السويسري "هاينريخ روهرير" و قد حصلا على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1986،  لأنهما استطاعا من خلال هذا المجهر، من مشاهدة وتصوير الذرات المفرد لأول مرة في التاريخ. وكما هو معلوم فإن شركة "آي بي إم" هي عملاق صناعة أجهزة وبرامج الكمبيوتر. وتحقيق ذلك الإنجاز العلمي الهائل في مجال علم الفيزياء الذرية في المختبرات العلمية لشركة الحاسبات تلك يعتبر من الأحداث النادرة في تاريخ العلم، ففي الغالب مثل هذه الاكتشافات البارزة تحصل في مختبرات الجامعات أو المراكز البحثية الدولية (مع استثناء اختراع الترانستور في مختبرات شركة بيل الأمريكية للاتصالات أو اختراع الليزر في مختبرات شركة هيوز للطيران).

على كل حال في عام 1989 تمكن عالم الفيزياء الأمريكي "دون إيجلير" من تحريك الذرات بواسطة مجهر "STM" السالف الذكر. وبحكم أنه كان يعمل في مختبرات شركة "آي بي إم" لهذا وربما كوسيلة للتعبير عن الانتماء، قام بتحريك الذرات لكي تشكّل الحروف الثلاثة لتلك الشركة. ولكي يحقق إيجلير هذا الإنجاز العلمي التاريخي قام بتحريك 35 ذرة من ذرات عنصر الزنون على قاعدة من عنصر النيكل، وكان حجم تلك الكتابة النانوية المصغرة بارتفاع خمسة نانوميتر (5 nm) واستغرق من الزمن 22 ساعة لإتمام تحريك الذرات المفردة لكتابة تلك الحروف الثلاثة.

بعد هذا المدخل التاريخي لأعجوبة الكتابة بالذرات بواسطة أجهزة علمية متقدمة مثل المجهر النفقي الماسح (STM) ومجهر القوة الذرية (AFM)، والتي تمت منذ حوالي ثلاثين سنة، ليس من المستغرب أن نعلم أنّ العديد من المراكز البحثية في مختلف دول العالم حاولت خلال تلك العقود الزمنية تطوير هذه التقنية باهظة التكاليف، لكي تعمل في ظروف مختبرية أسهل ولإعطاء نتائج أكثر دقة. وهذه المقالة العامة، ليست مجالًا لذكر تلك التفاصيل العلمية الدقيقة لكن ما ينبغي تسجيله هنا هو أن أغلب العلماء في هذه المراكز البحثية المتقدمة عندما يقومون بتطوير تقنية جديدة "منقحة ومزيدة" في حرفة الكتابة بالذرات، فإنّ أول ما يحرصون عليها في أوراقهم البحثية التي يرسلونها للنشر في المجلات العلمية المرموقة مثل مجلة الطبيعة (Nature) أو مجلة العلوم (Science) أنهم يرفقون صورًا تحتوي على الحروف المكتوبة بالذرات لأسماء تلك الجامعات أو المعاهد العلمية. فمثلا في عام 2013، عندما طور العلماء في مختبرات كلية التثليث بجامعة دبلن الإيرلندية، تقنية علمية جديدة للكتابة بالذرات كان مما قاموا بتحريك الذرات لكتابة الحروف الثلاثة "TCD" للكلمات المكونة لاسم تلك الكلية (Trinity College Dublin). وعلى نفس النسق في التعبير عن الانتماء، قام العلماء في المختبرات البحثية في ألمانيا وكذلك في أمريكا بنفس الأمر فالحروف الثلاثة (INT) تمت كتابتها بذرات النحاس تكريمًا لاسم معهد تقنية النانو بجامعة "كارلسروه" الألمانية، في حين أن الحروف الثلاثة "NRL" المكتوبة بذرات الجاليوم هي الحروف الأولى من اسم مركز الأبحاث الشهير الموجود في مدينة واشنطن: مختبر أبحاث البحرية الأمريكية (Naval Research Laboratory).

بقي أن نقول إنّ الكتابة بالذرات لم تتوقف عند تشكّل الأحرف الهجائية فقط، ولكن أمكن كذلك كتابة كلمات كاملة مثل لفظة النانو (Nano)، بينما استطاع علماء اليابان من كتابة كلمة الذرة باللغة اليابانية، وذلك باستخدام ذراتٍ مفردة من عنصر الحديد على قاعدة من ذرات عنصر النحاس. وبحكم أننا وصلنا في الحديث عن اليابان، تجدر الإشارة إلى أن أحد العلماء اليابانيين قام في عام 1991 بالاحتجاج على الهجوم الأمريكي على العراق أثناء حرب الخليج الثانية ولهذا استطاع كتابة عبارة: سلام 91 (Peace 91) باستخدام ذرات عنصر الكبريت.

مشاركة الذرات في اليوم الوطني

في توافقٍ "عجيب وغير مقصود" حصل عام 2017، قام وبشكلٍ منفصل كل من علماء الفيزياء في كندا وفي المملكة العربية السعودية بالتعاون مع زملائهم علماء الفيزياء الألمان، بالمساهمة في اليوم الوطني لكل من الدولتين، وذلك من خلال توظيف الذرات لكي تشكّل شعار الدولتين. وفيما يخص العلماء الكنديين، وبدافعٍ من الشعور بالانتماء فقد قاموا بالمساهمة في الاحتفالات الوطنية بمناسبة مرور 150 سنة على تأسيس الدولة الكندية باستخدام تقنية مجهر STM لتحريك 34 ذرة هيدروجين لكي تشكّل الرقم 150، وكذلك الرمز الوطني لكندا المشهور (ورقة القيقب). بينما قام علماء الفيزياء في معهد الملك عبدالله بتقنية النانو بجامعة الملك سعود، بالطلب من زملائهم العلماء في جامعة فورتسبوغ الألمانية مساعدتهم ليس فقط في رسم ورقة واحدة ولكن في تشكيل شجرة كاملة. ففي عام 2017 وضمن الاحتفالات باليوم الوطني السعودي، والذكرى 87 لتأسيس المملكة، تواصل الزملاء في وقتها الدكتور "هشام الهدلق" المشرف السابق على معهد الملك عبدالله لتقنية النانو والدكتور "حمد البريثن" المشرف الحالي للمعهد مع نظرائهم في الفريق البحثي للدكتور "ماتيوس بود" أستاذ علم الفيزياء في معهد الفيزياء بجامعة فورتسبورغ الألمانية. ومن هنا، أمكن تصنيع مجسم نانوي صغير جدًا لشعار المملكة (السيفين والنخلة) والمشكل من ترتيب 54 ذرة فضة تم تحريكها بواسطة طرف إبرة مجهر "STM" وتثبيتها على قاعدة من 111 ذرة فضة. الجدير بالذكر، أنّ طول ذلك الشعار النانوي بلغ فقط 25 نانوميتر، بمعنى أنّ ألف وحدة منه لو وضعَت جنبَا إلى جنب بالكاد يكون طولها قطر شعرة الإنسان أو "بحجم رأس الدبوس".

وفي تجربة أخرى إضافية قام زملاء في معهد الملك عبدالله لتقنية النانو بالتعبير عن الانتماء والولاء بعمل لوحة لشعار المملكة النانوي (Nano Kingdom Logo)، لكن هذه المرة بحجم أعلى من حدود تقنية النانو حيث قاموا برصّ مكعبات من الكربون على شكلٍ ثلاثي الأبعاد لشعار السيفين والنخلة. وقد تم تحريك 55 مكعب من ذرات الكربون طول كلّ مكعب حوالي واحد مايكرومتر(1 µm) ثُبّتت على قاعدة من معدن الحديد. وبحكم أنّ هذا الشعار النانوي الكربوني أكبر بحوالي 1800 مرة من الشعار النانوي الفضي، فربما يمكن مشاهدة الشعار الجديد والتأكد منه بالمجاهر الضوئية التقليدية، بينما شعار المملكة النانوي لا يمكن مشاهدته إلّا بنفس التقنية التي صُنع بها أي جهاز مجهر المسحي النفقي.

وختامًا يتزامن نشر هذه المقالة، مع اليوم الوطني السعودي الثالث والتسعون، الذي يصادف 23 سبتمبر من كلّ عام. وقد قمنا في قسم الكيمياء بجامعة الملك سعود بالتعاون مع الزملاء في معهد الملك عبدالله لتقنية النانو ونادي الكيمياء بتجهيز ملصق (Poster) خاص يعرض ويشرح بعض المعلومات عن "شعار المملكة النانوي" المكتوب بذرات الفضة والمرسوم بحرف سن إبرة جهاز STM المتطور.
 

 

تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com​

 


نُشر حديثاً للكاتب: شلة أوبنهايمر في الحرب والسلم


 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي


يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

       

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

مواضيع ذات علاقة

0 التعليقات

أضف تعليقك

/* Whatsapp Share - 26-6-2023 */