إنّ علماء حضارتنا العربية والإسلامية كثيرون، حيث لا يمكن حصرهم فهم بالآلاف. لقد أحصى الأستاذ المغربي إدريس لمرابط في كتابه "مدخل إلى تاريخ الرياضيات في المغرب العربي" حوالي 639 عالم رياضيات بينهم 260 من الأندلس، والبقية من المغرب العربي.

مع بداية الربع الأول من القرن 11ميلادي سقطت الخلافة الأموية بالأندلس، وهكذا دخلت الأندلس في عهدٍ جديد سُمّي بعصر ملوك الطوائف (أو عصر الفرق). ومن بين الممالك التي تحقّق لها البروز على الساحة كانت مملكة بني هود في سرقسطة (Zaragoza)، حيث تميزت بالاهتمام بعلوم الرياضيات، حتى أصبحت مركزاً مهماً للدراسات والعلوم  في هذا المجال، فنجد على سبيل المثال لا الحصر أبي عبد الله بن أحمد السرقسطي (ت.1095م) الذي برع في الأعداد والهندسة، بالإضافة إلى أبي الفضل بن حسداي الذي برع في علمَي العدد والهندسة، ومحمد بن سليمان التجيبي (ت.1135م) المكنّى بأبي عبد الله وهو من أهل سرقسطة وسكن المرية وكان من أهل المعرفة بالحساب.

نريد في هذا المقام تسليط الضوء على واحدٍ من علماء الرياضيات المرموقين في الأندلس، وهو المؤتمن بن هود ملك سرقسطة، الذي لم يمنعه انشغاله بالسياسة والمُلك عن البحث والتأليف في الرياضيات.

المؤتمن.. في سطور

هو أبو عامر يوسف بن أحمد بن المنذر الملقب بـ "المؤتمن بن هود"، وهو ثالث ملوك عائلة بن هود التي حكمت إقليم سرقسطة بالأندلس ما بين 1039م و1146م، وهو الابن الأكبر لأحمد المقتدر، ودام حكمه من 1081م حتى وفاته سنة 1085م، حيث ورث المؤتمن حكم سرقسطة عن أبيه، أما أخوه الأصغر المنذر (ت 1080م) فقد ورث أراضي لاردة، وطرطوشة، ودانية، وكانت بينهما خصومة أدت إلى نشوب معركتين بينهما، انتصر المؤتمن في كليهما.

ويعود اهتمام المؤتمن بالعلوم إلى أبيه الذي كان يرعى العلماء ويهتم بالعلم، وهذا ما أشار إليه إسماعيل بن محمد الشقندي (ت. 1232م) في رسالة دفاعه عن الأندلس وافتخاره بالمقتدر حيث قال "وهل لكم في علم النجوم والهندسة والفلسفة ملك كالمقتدر بن هود صاحب سرقسطة فإنه كان في ذلك آية". وكذلك من أسباب اهتمام المؤتمن بالعلوم، هو المحيط الذي نشأ فيه، وهذا ما أشار إليه ابن عذارى المراكشي حول بلاط أحمد المقتدر (والد المؤتمن) بقوله "كان عنده من العُمال والكُتاب ما لم يكن عند غيره في وقته".

ويُرجّح المؤرخون إلى أنّ المؤتمن  قد يكون اطلع –كونه من الأسرة الملكية- على المؤلفات العلمية التي جمعها الخليفة الأموي الحكم الثاني (905م-976م) طوال فترة حكمه، واطّلع كذلك على كتاب "المناظر" لابن الهيثم (965م-1039م) واعتمد عليه في أعماله بالإضافة إلى اطلاعه على أعمال إبراهيم بن سنان (908-946م). كما كني المؤتمن بـ "بالملك المهندس" نظير إسهاماته الأصيلة في مجال الهندسة.

لم يتوصّل مؤرخو تاريخ الرياضيات إلى معرفة متى بدأ المؤتمن التأليف، وفي هذا السياق يرى مؤرخ العلوم العربية رشدي راشد أنّ كتاب "الاستكمال" الذي ألّفه –المؤتمن- بنفسه، وهو لا يزال وليا للعهد أنه "ليس بإمكان ملك أن يؤلّف كتاباً بحجم كتاب الاستكمال خلال أوقات الاستراحة التي تسمح بها أعباؤه".

كتاب "الاستكمال"

لقد جاء كتاب "الاستكمال" في جزئين. لقد تضمّن الجزء الأول القضايا النظرية مع تقديم براهينها بدقةٍ عالية، حيث تناول حوالي 400 قضية موزعة إلى 5 أنواع: نظرية الأعداد، ونظرية المقادير الصماء، وهندسة الأشكال المستوية القابلة للإنشاء، وهندسة الأشكال الكروية، وهندسة المخروطات، كما يوجد بهذا الجزء العديد من المواضيع التي تعرض لها علماء الرياضيات الإغريق مثل أقليدس (300-265 ق م) وأرخميدس (287-212 ق م). أمّا الجزء الثاني فإنّه لم يصل إلى أيدي المؤرخين.

ويشير الأستاذ المؤرخ أحمد جبار إلى أنّ كتاب "الاستكمال" ظل يُدرس في المغرب العربي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، ويستدلّ بذلك بابن البناء المراكشي (ت.1221م) الذي اعتمد على كتاب المؤتمن في "رسالة التكسير" كمرجعٍ أساسي وبنفس رتبة مراجع أخرى ككتاب "الأصول" لأقليدس، وكتاب "الكرة والأسطوانة" لأرخميدس. كما يضيف جبار أنّ كتاب المؤتمن استخدم حتى أواخر القرن الرابع عشر في المغرب العربي، معتمداً على كتاب "التمحيص في شرح التلخيص" لابن هيدور (ت1413م). ويستعرض جبار ثلاث شهادات تثبت وجود واستعمال كتاب المؤتمن في المشرق، إذ يذكر ما جاء في كتاب "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" لابن القفطي من أنّ ابن ميمون (ت.1204م) قد أدخل تحسيناتٍ على تحرير كتاب المؤتمن، ودرسه خلال إقامته بالقاهرة. كما يذكر جبار كذلك شهادة تلميذ ابن ميمون  وهو ابن عقنين (ت. 1226م) في كتابه "طب النفوس" إذ يقول "ونحن نرشدكم إلى كتاب جمع فوائد الهندسة كلها باختصار التطويل وقصر الايجاز في براهينه يتبين من براهين أشكاله علوم انطوت تحت كل برهان منها فهو كتاب الاستكمال للمؤتمن بن هود، لا يعدله شيء وجيز للفظ نبيل البرهان".

وآخر الشهادات التي ساقها الأستاذ أحمد جبار هي شهادة عالم الرياضيات ابن سرتاق المراغي من القرن الرابع عشر، الذي درس كتاب "الاستكمال"، بل وحرر أيضاً نصاً جديداً يتم النص الأول لكتاب المؤتمن وعنوانه "الاكمال". ولقد تضمّن كتاب الاستكمال للمؤتمن بن هود برهانا دقيقاً معروفاً تحت تسمية "نظرية سيفا" وهذا قبل حوالي ستة قرون ونصف من وفاة جيوفاني سيفا، وتنص هذه النظرية على أنه إذا كان ABC مثلثاً وكانت النقاط  D و  E و  F تقع على الأضلاع  BC و AC و AB  على الترتيب، فإن المستقيمات  AD و BE  و CF  تتقاطع في نقطةٍ مشتركة  فقط (O)، وفقط إذا كانت النسبة التالية محققة:

ولذا يحق حسب المؤرخ الهولندي "يان هوخندايك" أن تسمى "نظرية سيفا" بـ "نظرية المؤتمن بن هود". وزيادةً على ذلك يرى هوخندايك أن كتاب "الاستكمال" قد ألهم "نيكولا بورباكي" وهي مجموعة من أربعة أساتذة في فرنسا من جامعات مختلفة، هدفت لإعادة كتابة النظريات الرياضية وشرحها على أسسٍ قوية، وحاولت أن توحّد الرياضيات من خلال نشر سلسلة كتب في منتصف القرن الماضي.

المصادر

1. أحمد جبار، المؤتمن بن هود. ملك وعالم أندلسي في القرن الحادي عشر، جديد العلم والتكنولوجيا، العدد 4، 1990.
2. حسن غربي، كتاب الاستكمال للمؤتمن بن هود، مجلة المخاطبات، العدد 32، 2019.
3. أبو بكر خالد سعد الله، نفحات من تراثنا العلمي المجيد، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 2011.
4.    Hogendijk, J. P. «AI-Mu'taman ibn Hud, 11th-Century King of Saragossa and Brilliant Mathematician" ,Historia Mathematica 22, 1995.

تواصل مع الكاتب: merabetmohamed02@gmail.com​

اقرأ أيضاً

أبو نصر بن عراق .. عندما كان الأمير عالماً

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة